Kamal Abdul Hameed

cover.jpg

لا يدخل الليل إلا وحيداً

                                            

                                                إلى ناصر      

                                       الفرح الذي يسبق اسمي  

                          .....    .....                 

                       تكثر أوجاعهم الذين أسرعوا وراء آخر 

               سفر المزامير             

                           4-16                       

                                                  

 


شعرة بيضاء

 

استيقظ متكاسلاً، عيناه منتفختان من سهر الأمس، وكعادته أدار فرشاة الأسنان في فمه، واستسلم لدش ماء بارد لينجو من بقية النعاس، وقف أمام المرآة ليمشط شعره، توقف فجأة ومال باتجاه زجاج المرآة، ما هذا؟ تساءل وهو يراها جاثمة ومستقرة في مقدمة رأسه، لم يصدق وظن أن الضوء يخدع بصره، لكنه أمسك بها بصعوبة وتأكد من وجودها الغريب، جحظت عيناه

- من أنت أيتها اللئيمة؟

- أنا أول شعرة بيضاء في أول عامك الجديد

- من أتى بك إلى هنا؟

لم ترد·· نسمة هواء باردة قادمة من فم المكيف جعلتها تختفي بين شعرات سوداء كثيفة، مال ثانية إلى وجه المرآة وبحث عنها بأظافره، عثر عليها أخيراً راقدة تنظر إليه وتقول ساخرة:

- هل تظن أنني جئت إليك برغبتي؟ ومن قال لك إنني أحب أن أكون هنا غريبة ووحيدة؟

- أنت لست غريبة فحسب، أنت يتيمة وستبقين هكذا طويلاً·

- يتيمة·· تقول يتيمة؟!

لن يطول الوقت يا صاحبي حتى تظهر من حولي شقيقاتي، لن يطول الوقت حتى يمرح بياضنا في شعرك·

 -أنتِ كاذبة، ومن قال إنني سأتركك تفعلين بي كل هذا؟ سأشدك الآن بقوة، سأنزعك بعنف وحقد وألقي بك في الهواء، لن أجعل لك بيتاً بعد اليوم إلا الريح والغبار·

كاد أن يحرك أصابعه ليمسك بها وينزعها، لكنه تردد وسأل نفسه بأسى حقيقي:

من أين جاءتني هذه الشعرة البيضاء؟

كيف احتلت المنطقة الأمامية من رأسي دون سابق إنذار؟

شعرة واحدة تسللت على غفلة وبدت كأنها ذنب معلن، فلا تصدقوها، البياض الذي سيزحف بعدها كاذب، والعمر الذي ستكشف عنه كاذب، واليأس الذي سيتبعها كاذب، سيكون عليَّ اليوم أن أنزعها حتى لا يراها أحد، سأشدها بقوة وحقد، وألقي بها بعيداً·

لكن لماذا أفعل ذلك؟ لماذا أخسر شعرة ربما لا أعوضها ثانية؟ سيكون من الحكمة التي بلغتها أن أبحث عن صبغة سوداء جيدة لأنهي مشكلتي

أيتها الشعرة الفاضحة: من أتى بك إلى هنا؟ لماذا لم تسقطي كغيرك من الشعيرات المفقودات بين أسنان المشط ورغوة الشامبو؟ لماذا لم تظهري بعيداً عن الجبهة العريضة؟ كان من اللائق بك أن تتركي لي من الوقت ما يكفي لأستعد لحضورك المباغت؟

أيتها اللئيمة لماذا وأنت هناك في أعماق جلدة الرأس لم تختاري لوناً آخر لتطلي به على الحياة؟ لو أنك جئت سمراء أو سوداء أو حالكة كالليل لاستقبلتك استقبال الفاتحين، كنت وقتها سأهيئ لك ما تشائين من العناية، لكن اختيارك البياض يفضحني، يذكرني بالعمر الذي جرى سريعاً، بالبيت الكبير الذي غادرته قبل خمسة عشر عاماً·· تذكرينني أيتها الشعرة اليتيمة باللهو أمام الحقول وقنوات المياه الضيقة، بالأحلام التي كانت طيبة كرائحة الصباحات وندى الأوراق الخضراء المائلة على أول الطريق، وبالشقاوة في بدء القراءة والكتابة، وبطاولات المدارس الخشبية وغبار الطباشير أسفل الأظافر التي كانت تطول في غفلة من عصا الناظر المتجهم، أراك الآن يا شعرتي التعسة فأحصي خطواتي التي أنفقتها في اقتناص الطمأنينة، أحصي أصدقائي الذين خسرتهم حين تفرقت بنا السبل، البدايات الأولى للمتعة المراوغة، بهجة الأشياء الصغيرة، سذاجة الحب والمراهقة والتعلق بالمستحيلات، تذكرينني أيتها الشعرة البيضاء بما تركت خلفي، هوة سحيقة بيني وبين الذي كنته قبل أربعين سنة، كأنني، وأنا أنظر إليك يا شعرة البياض المخيف، أنظر في بئر عميقة في قاعها طفولتي، في أي عام نحن؟ في أي عام أنا؟ سرقني الوقت، وتسربت من بين يدي أربعون عاماً دون أن أنتبه، ها هي الأربعون كاملة فوق كتفي، أربعون سنة، أربعون جبلاً، أربعون جداراً أتحرك بها·

يقولون هي عمر الحكمة، ولا أرى حكمتي إلا عبثاً، ما زلت أجرب وأرتكب الأخطاء ولا أتعلم، ما زلت أفتش عن سبب لأشياء قد تبدو بلا سبب، ما زلت ظامئاً والماء بين يدي، أذهب خلف البريق المراوغ فلا أجد إلا عتمة تعقبها عتمة، ما زلت ساذجاً أفتح القلب لمن يعطيني ابتسامة أول الكلام، ما زلت أخرج من ورطة لأقع في ورطة، أخرج من شغف لأقع في شغف، مازلت مسكوناً بالطيران، أضيق بقيودي التي صنعتها وصنعت لي·

أيتها الشعرة البيضاء

يا راية استسلامي...!


ما لا تعرفه حنين

 

قالت التي أحبها:

ربما تكون رسالتي الأخيرة

انتبه، سأضع عينيك حجرين على الإسفلت، سأتركهما - هكذا - عاريين أسفل الريح والمطر، وأقول للحفاةِ اعبروا فوقهما، لأنهما مدببان كخنجر تاريخي مسموم، هما عيناك الآن حجران ملقيان بلا رحمة، والأقدام الكبيرة تقذفهما من حائط لحائط·

قالت التي أحبها:

ربما تكون رسالتي الأخيرة

انتبه، هذه ( ربما ) حرف جر للتقليل لحقته ( ما ) وكفته عن العمل، تماماً كما أريدك أن تكف عن الحياة، أن تكف عن محبتي، وألا تمسك بأطراف ثوبي وأنا هاربة من شياطينك، أنتَ تضل بلا هداية، ثم تلوذ برحمتي، وأنا مسكونة بالقلق والسؤال، مَنْ يرحم مَنْ؟

قالت التي أحبها:

ربما تكون رسالتي الأخيرة

انتبه، شد الغطاءَ على قدميكَ آخر الليلِ، أطفئ الضوء في الممر الصغير، ضع كوباً من الماء بجوار سريركَ، أعرفكَ حين يداهمك الظمأ في منتصف الكوابيس، خُذْ ما يكفي من إفطارك المنسي، ولا تدخن على معدةٍ خاوية، واسأل ( الناطور) عن السخان المعطل، وحين تكون وحيداً تبحث عن رائحتي، تذكر كيف أهديتني عطراً باريسياً دون مناسبة، وكيف أهديتكَ الحب دون مقابل

قالت التي أحبها:

ربما تكون رسالتي الأخيرة

انتبه، أنتَ في دمي كما في دمك وجهي واسمي، كما في دمك هذا البكاء المزمن على الموتى والغائبين، كما في روحك ما أتعبني من الضلال والعبث، كما في روحي الصغيرة هذا الضعف والعناد، كما بيننا هذه المحبة الجارحة، فمَنْ يرحم مَنْ؟

ربما تكون رسالتي الأخيرة

أعرفُ أنك لن ترى دموعي حين يداهمني الحنين إلى بيتنا، ولن أرى دموعك لحظة تقلب في أوراقنا، وتستعيد صوت البحر والقطار، أعرف أنكَ ستدخل مساء الفندق مثلما يدخل الموتى قبورهم، وحيداً في الزحام، تنام الحسرة في قلبكَ، وأنا في عينيكَ آخر ما رأيتَ، آخر ما أحببتَ، آخر ما عرفتَ من الفرح والبشارة·

ربما تكون رسالتي الأخيرة

قتلتني دون قصدٍ، وأقتلكَ دون قصدٍ، واحدةً بواحدةٍ، وكلانا ينشد البراءة والمسرة، سأتهمكَ بما فيكَ وليس فيكَ، وتتهمني بما عندي وليس عندي، سيشد كل منا الحبل على صاحبه، ونصرخ في القطيعة: " الحب·· الموت "، ونفتش في أكفاننا البيضاء عن نسبة القدر والاختيار·

ربما تكون رسالتي الأخيرة

ربما تورطني البلاغة في القسوة كما كنت تهذي آخر الليل، ربما ترتبك كالصغار أمام موقد الغاز يوماً، وتكتفي بالوجبات الجاهزة، ربما يخفق قلبك كبركان صغير فلا تعرف على أي جهةٍ تنام، ربما تحرق رئتيك بالتبغ وتغفو قليلاً على مقعدك فيسقط من يديك كتاب نيتشه " هذا هو الإنسان "، ربما تتابع الأغنية الراقصة بشغف·

ربما

لكنني أعدكَ - إن مِتَّ - بالفاتحة وقطعتين من الخبز على روحك، وبراءة كاذبة أمام سؤال " حنين"

······

ربما تكون هذه رسالتها الأخيرة

لكنني - أنا المخاطب بالفقدِ - أقف على بوابات الدخولِ رهن المصادفات، أضع قلبي على خشب الباب، أسترق السمع كأولئك الدراويش العجائز، أجهز الطعام لاثنين، وأتحاشى أن أموتَ دون وصية أو عزاء، دون أن أسألكِ: هل أعجبكِ العشاء؟

 

  

الليل الذي لا نحبه

 

لا نحب الليل الذي يرن الهاتف في ساعاته الأخيرة، نسمع صوت الرنين فنقفز كمن لدغة عقرب، نمسك الهاتف خائفين من الإجابة، خائفين من خبر أسود يحمله هذا الذي ينتظر على الطرف الأخر، نكاد نجيبه فنتردد دافعين عن رؤوسنا المصيبة المتوقعة، مطمئنين إلى التجاهل، راغبين في النوم والصباح كفيل بالنسيان، يصمت الرنين قليلاً فنفرح لانقطاعه لكنه يعود ثانية فتقع قلوبنا ويكبر الظن بأن أحداً من الأهل والأصدقاء أصابه سوء، وإلا لماذا هذا الرنين في ساعة متأخرة ينام فيها الناس إلا أولئك الذين مسهم الضر.

لا نحب الليل الذي يرن فيه جرس الباب في ساعاته المتأخرة، ونحن نستعد للنوم مجهزين أرواحنا لهدوء مقتطع من الوقت المزدحم بالقلق، نسأل في توتر من هذا الذي جاء صاعداً البناية ليضغط جرس الباب ؟ أي نبأ يحمل ؟ نخمن في ثوان خاطفة اسم الذي يرن الجرس وهيئته، ربما صديق ينعى إلينا صديقاً، ربما حارس البناية يحذرنا من حريق، ربما ضيف ضاقت به الأماكن فتذكر أسماءنا وبيوتنا، ربما أحد من الجيران تأخر به السهر فأخطأ باب شقته.

لا نحب الليل الذي تزدحم على أطرافه الوجوه والطرقات، همس الأصوات البعيدة، الأغنيات الحزينة التي تجر القلب من شراينيه، وتشعل النار في الدم فيبدأ الغليان والأرق، نتقلب على جمرة بحجم جبل، الوسادات من شوك والأغطية الخفيفة تشف عن الهم والغم، لأن حيلة العاجزين المطاردين بالذي فات لا تغنيهم أمام ضعفهم، فندور ونلف من غرفة إلى أخرى باحثين عن البراءة من ذنب النسيان المتعمد، من ذنب التجاهل والهروب.

لا نحب الليل الذي تكون فيه الكلمات جارحة، لحظتها يصبح الوقت ثقيلاً يمر ببطء وتخرج الأنفاس من الصدر كما يخرج الهواء من ثقب إبرة، نبحث عن عذر لمن قال كلمته ومضى، نبحث عن غفران لمن أغمد خنجره في الظهر واختفى، نبحث عن رحمة لمن أطلق رصاصته من فمه وبات يجهز نفسه ليمشي في جنازتنا، نقول ربما لم يقصدنا، ربما لم تكن جريمته مدبرة، ربما سذاجة أوقعته في الخطأ، ربما نحن المذنبين بحساسية مفرطة، ونظن بالآخرين الظنون.

لا أحب الليل الذي أعرف فيه بموت أحد، بفقد من عرفتهم مصادفة أو عن قرب، حينها تجيء الأحزان من كل صوب وحدب، يعيدني الأسى إلى القرية البعيدة، ليلها المعتم، سكونها المسروق من وحشة المقابر، صرخة امرأة تشق الصمت والبرد في منتصف الليل، وخطوات لاهثة على طريق ترابي، صوت بكاء على من أغمض عينيه إلى الأبد، ونباح كلاب أيقظها العويل، ولا شيء يشد الصباح النائم، فيما يسهر الناس أمام بيت الذي خرجت روحه، وفي صدورهم تلتقي عتمة الليل والموت.

 لا أحب الليل الذي تبكي فيه امرأة على الهاتف

لا أحب الليل الذي تكثر فيه الأسئلة فأكلم نفسي

لا أحب الليل الذي أنام فيه بحرائقي المجهولة

لا أحب الليل الذي تنسحب فيه الطمأنينة وتضيق المدينة

فأشرد خلف ضوء وأغنية

وأمسك بطرق السرير:

لا أحد

لا رائحة

لا بساتين أغرق ببطء في مائها.

 

 

هابي بيرثداي

 

هابي بيرثداي تو يو

هابي بيرثداي تو يو

خيل إليه وهو ينصت إلى الأغنية من جهاز الكاسيت أن المطرب يتقافز وسط حفنة من الصبايا، وأن البالونات الملونة تملأ كادر المشهد، وأن ثمة شموعاً تتناثر في الخلفية كديكور ساذج وبديهي لأغنية عن عيد الميلاد.

كانت جالسة تنظر إليه وهو يرتب طاولة الاحتفال.

هابي بيرثداي تو يو

ازداد صخب الموسيقى، ظن أن المطرب وفرقته سيخرجون من الكاسيت إلى غرفة الصالون الضيقة، حبس أنفاسه وتابع وضع باقة الورد والتورتة، وشمعتين صغيرتين على هيئة رقمين متجاورين يرمزان لعامها الجديد، اتسعت ابتسامتها حين أشعلهما، اختفى صوت المطرب تاركاً الموسيقى فغنت هي أمام شمعتيها( هابي بيرثداي تو مي ) فيما كان هو يركز في آخر المقطع ليقول( تو يو) مأخوذاً بذاكرة القرى، مسكوناً بوجه البائع العجوز في دكانه القديم ذلك الذي كان يظن الأطفال انه ولد وشب وبلغ السبعين من عمره داخل الدكان، كأنما لم يبرحه ومرت السنوات به بائعاً متجهماً، يخافه الصغار ويتجنب الكبار غضبه عند الشراء حين تتضاعف الأسعار وتغلق الدكاكين البعيدة فيرضخ الناس لغلائه ويشترون بغيظ ثم ينصرفون غاضبين، يلعنونه بعد بضع خطوات ويدعون عليه بالمرض والخسارة.

هابي بيرثداي تو يو

أعاد الأغنية ثانية ليهرب من أشباح ذاكرته، وحين أطفأت شمعتيها تسرب إليه ذلك المشهد البعيد في طفولة لم تعرف للشموع وظيفة غير الإنقاذ من العتمة والعقارب حين كان ينقطع التيار الكهربائي فتغرق القرية في الظلام، ويتحسس الصغار ثياب آبائهم بحثاً عن طمأنينة، فيما يذهب أكبر الإخوة بعصاه إلى الدكان الرابض في أطراف القرية، هناك يبقى البائع العجوز واقفاً ونحيلاً كعود قصب جاف، يبيع الشموع الصغيرة ويمرر يده اليابسة على لحية بيضاء أطلقها في آخر عمره، فيما يعلق في يده مسبحة طويلة ورخيصة تغير لون حباتها، وفي السر يسخر الخبثاء ويسألون عما يقوله حين يسبح ربه وهو الذي يغشهم في الكبيرة والصغيرة دون أن تطرف عيناه.

هابي بيرثداي تو يو

قالها وهو يداري ذلك الزحام الذي يملأ صدره، وهو يقاوم زحف أشباحه القديمة التي تشده إلى عتمة البيت الكبير التي لا تطردها شمعات صغيرة كأقلام الرصاص لا تكاد تشتعل حتى تنطفئ فيواصل بعينيه الضيقتين متابعة ضوئها الخافت ملتصقا بأبيه أو أمه خائفاً من عفاريت المقابر وغابة النخيل القريبة، وحين يغلبه النعاس يغطي وجهه بيديه حتى لا يرى العفاريت تمشي على الجدار.

هابي بيرثداي تو يو

ابتسم وهو يلتهم نصيبه من التورتة حين اطمأن إلى مسافة آمنة بينه وبين أشباحه لحظة ضغط بإصبعه على زر الكهرباء فاكتسى البيت بالضوء، وأيقن أن للشموع في المدن غاية أخرى غير إنقاذه من عقارب القرى.

 

سيدة البرتقال

 

 تركت يدها ممدودة ومضت، كأنما تركت شجرة برتقال في يدي، أي فرح ينام في عينيها، أي موعد لا يجيء أنتظره؟ ليست لي هذه التي ابتسمت على الهاتف في صالة المطار، قالت وهي تضحك كطفلة أن روحها غيمة، وأنني لا أصل الغيم أبداً، قالت لي شيئاً عن استبدال الحب بالمودة،

 شيئاً عن الصداقة التي تعقب النار،

 شيئاً من الكلام عن اللغة التي تشبه زهر البرتقال.

وردة خرجت   من شجرة في حديقة واستقرت على مقعد بجواري، سألت روحي: هل للورود صوت كما الرائحة؟  

حيرة الرغبة في اصطياد تفاصيل اللحظة وحفظ ملامح الوجه حين يصبح رد الفعل نافذة على الرضا والغضب، الدهشة والحذر، السعادة والملل، وردة تجلس، كأنها عنوان طفولة قديمة، يقودني الجنون إلى تخيُّـل قدرتي على وضعها في جيب قميصي، فهل تتركني المدينة أنتزع وردة من بستانها؟ لكنها تسافر، فهل ينام الورد على ورق جواز السفر؟ وكيف يمر من أختام المطارات دون خدش؟ سأضعها وردة على يسار الجسد، في القلب، و مفتاحاً للروح، فكيف أمر من أجهزة الكشف في المطارات وأنا هارب بوردة ناعمة هي فرح الناس والأرض؟

هكذا·· كنتُ أدبر في صمتي حيلة مبتكرة لسرقتها، لكنها اختارت المدينة المراوغة، وتركت خلفها خيطاً من العطر، خيطاً من أريج الحدائق البعيدة·

تُرى·· ماذا قالت الوردة سراً حين تركت المكان، حين ابتسمت كالآلهة على الهاتف؟ حين انتبه الجالسون في صالة المطار لصوت الكمان؟

تركت يدها  

يدها التي صافحتني ثلاث مرات بلا مقابل

يدها التي تحركها ببطء حين تتسع عينيها بالسؤال

ليست لي هذه القطعة الشهية من الروح،

ليس لي هذا العطر الذي عبر رئتي في غفلة الكائنات،

 كيف تأخذني بسرها إلى البئر فلا أجد الماء ؟

كيف أنام على ما تبقى من صوتها في الهواء، هل يقدر الذي يربي أشباحه في الظل، أن يفرح برسولة علقت قلبه بين الأرض والسماء؟

هي صباح الخير الطيبة حين تتلون صباحات الناس بالأكاذيب والأمنيات الباهتة، هي ابتسامة الساعة الأولى التي تطرد الحزن عن القلب، هي الأغنية الطويلة على طريق مسائي لحظة تميل الرأس على زجاج نافذة القطار، هي اليقظة المفاجئة ليلةَ يهربُ النوم وتفتشُ أصابع الروح عن صورة مضبوطة على سُكَّرها ومائها، هي في نعومة مقبض الباب حين كان ينفتح على الفرح القليل، هي نعناعة صغيرة تسبح على وجه الشاي،هي أول تبغ الصباح، آخر ما قالته الأم في وصيتها: "اللّه يحبب فيك خلقه"، هي ما نصح به الأب على عتبة الدار: "الحسرة في الحب قبل الموت، هي ضحكة الطفولة في قلوب صغار البيت حين يسامرهم الخال، هي الخطى المرتبكة في بدء المعرفة والمحبة والسؤال، هي عصفورة حطت على نخلة الطريق الترابي في زمن الأحلام، هي خريطة التائه بين مدن تقسو، وقرى طيبة على هامش الملكوت، هي الكلام حين يلزم، والصمت حين يفرضه عجز التشبيه، هي انخطافة القلب إذ يرن الهاتف الصغير بالنغمة الشقية،هي وردة الطاولة والحدائق في ظهر يوم حار، فرح الطفل القديم بين حقول الذرة والقمح، حصاد الأرض المروية بالحنين إلى الحوريات.

 

هي ··؟ هي وجهة الذي أضاعته الجهات، ملاذ المتعب الذي أنكرته الأماكن والخلان، هي·· الإجابة المعلقة في سقف الفم حين يسأل الناس: من أين تجيء راحة البال؟

هي المتبوعةُ بالفكرةِ والرغبةِ، المأخوذةُ بأسمائها: الفيّاضة - المنّاعةُ - القليلةُ - الكثيرةُ، المطمئنة لزهر البرتقال، المعطّرةُ بذاتها - المرصودةُ بالبلاغة والحيلة - الواقفةُ على بوابة القلب - حارسةُ الروح من الوجد بغيرها

هي البعيدةُ عن قصدٍ، المقربةُ عن عمدٍ، حزنُ الغريبِ حين ينتابه الحنين لحكاية أمام موقد النارِ، هي دعاء الأم لحظة تبكي في السرِ وجه من غاب، هي تعويذة الجنوبي المخبوءة في الحقائب والأوراق، غايةُ الذي لا غايةَ له قبلها، هي تمام الشيء، اكتمالُ ما ينقصُ

 اضحكي يا سيدة البرتقال

اضحكي حتى يرتج الفؤاد ويصدح الكورس بالأغنيات،

 اضحكي حتى تنكشف الغمة ويورق شجر الظل دون ماء،

 اضحكي لترقص الفراشات حول النار،

 كيف تمطرين فرحاً وناراً في آنْ؟

 

 


العقارب لا ترتدي الأقنعة

 

لا أظن أنني أحببت العقارب يوماً ولو لساعة واحدة، ولي معها حكايات كثيرة في ظلام القرية البعيدة، لكنني حين أخذتني المدن وخطفت قلبي الطرقات الإسمنتية، تحسرت على طيبة العقارب القروية التي كانت تزحف تحت عتمة الليل وحيدة ومتعبة من قيظ الصيف ورطوبة الجدران، أستطيع الآن أن أشعر بالمحبة والفقد لتلك الصرخات المدوية التي أطلقتها ذات يوم وأنا أتحسس رأسي فزعاً، كنت في الثامنة من عمري مسكوناً بالرعب من العقارب، لا أثق بفراشي إلا حين أقلّبه باحثاً عن الخطر النائم أسفل الوسادة أو الغطاء، لكنني في الليلة المشئومة كنت متعباً إلى حد نسيان مهمتي اليومية في التفتيش، كانت ليالي القرى النائية بعيدة عن رفاهية الكهرباء والمصابيح الشفافة المدلاة من الأسقف، لم يكن يضيء تلك الليالي غير " لمبات " تذهب نارها ساعة بعد أخرى حين يجف قلبها من الكيروسين ويسود زجاجها، في ذلك المساء ثقلت عيناي بالنوم فألقيت بجسدي الصغير على الفراش، دقيقتان فقط وشقت صرختي صمت الغرفة، كنت أصرخ باكياً وأنا أمسك بجانب رأسي الأيمن، فزع الأب وهو يسألني دون أن أجيب من فرط خوفي، كان ألم السم يسري ولا حيلة لرباط يوقف زحفه باتجاه القلب، أشعل الأب عود ثقاب صغير باحثاً عنها، كان يعرف بالتجربة أنني وضعت رأسي على عقرب·· لكن أين هي؟ كنت أبكي بين يدي الأم التي تلوّن وجهها بصفرة الخوف، فيما كان الأب يواصل بحثه عن هذه العمياء التي تركت لي سمها واختفت، انطفأ عود الثقاب الأول والثاني والثالث حتى عثر عليها أبي راقدة تحت طرف الغطاء، أخرج مطواة صغيرة من جيبه وغرسها في ظهرها، ورفعها أمام عيني لأهدأ ويتوقف بكائي، وفي الوحدة الصحية استيقظ الطبيب غاضباً وهــو يسـب ويلعن ويقسـم أنني عاشـر شـخص يجيـئه " ملدوغاً " وأن مصل العقارب يكاد ينفد·

لم أمت يومها من تلك العقرب الصغيرة العمياء، لم تقتلني عقرب القرية البعيدة النائية، تركت في قلبي خوفاً من أنواع العقارب وأشكالها، لكنني حين هجرت القرى إلى المدن عرفت أشكالاً وأنواعاً كثيرة من العقارب، عقارب تمشي وتتكلم وتبتسم في وجهك، عقارب ترتدي ثياباً عصرية وأربطة عنق وتضع عطوراً باريسية، عقارب تلقي عليك تحية الصباح وتمد يدها مصافحة، وتحدثك عن أحلامها فتظن أن بينكما تاريخاً مشتركاً من الذكريات، عقارب تدعي الثقافة والمعرفة وتتوهم أنها أجدر منك ألف مرة، وأعرف منك ألف مرة، وأنك الشيطان على الأرض، عقارب لها هيئة نساء تظن أنهن طيبات وبسيطات بساطة ثيابهن، يمشين على أطراف أصابعهن، يزحفن فلا تشعر بهن إلا أمامك، يحدثنك هادئات وناعمات فتسأل نفسك في صمت: من أين جئن بهذه الرقة وقد عشن حياة خشنة مملوءة بالفقر والحاجة ينكرنها كأنما ولدن في قصور؟ ولأنهن فاشلات يعشن على التقاط التفاصيل والحكايات الصغيرة، ينقلنها بين الناس كأنما قوتهن في لعبتهن·· في القيل والقال·

عقارب لها هيئة رجال، يمدون إليك خيوط الصداقة، على وجوههم ابتسامات صفراء، يقسمون بأغلظ الإيمان أنك الصديق الصدوق، وأن حياتهم دونك ناقصة، وأنك لا تقدرهم حق قدرهم، وفي الخفاء، على بعد خطوات منك يدبرون حيلة ماكرة ضدك، ويحيكون المؤامرات والحكايات عنك·

في القرى·· العقارب جاهلة وعمياء··

في المدن·· العقارب تفك الخط وتتحدث في السياسة والحب·

في القرى·· العقارب تزحف في العتمة·

في المدن·· العقارب حولك في كل مكان، تقود السيارات وتشرب الشاي والقهوة، وتقابلك مصادفة في الشوارع وأمام البنايات·

في القرى·· العقارب لا ترتدي الأقنعة·

في المدن·· العقارب لا تعرفها ولا تخمن من أين تأتيك

ولا تقدر على قتلها بعود ثقاب·

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 


آخر التعب

 

أغمض عينيه على مشهد سقف الغرفة الباردة، وهو الذي كان يحسب أن الحب يكفيه للفوز بوجه المرأة المستحيلة ليغلق عينيه لآخر مرة على ابتسامتها.

لم أعرفه إلا خاسراً، ولم ألتقه مرة في الصباح، أو المساء إلا وهو يطارد حلماً مستحيلاً، لا يستريح للسهل والممكن، تقوده أفكاره إلى المغلق والعصي، وحين ينفق الليالي الطويلة بلا جدوى، وتسقط أيامه وتتراكم خسارته، يعلق قلبه من جديد بالغامض البعيد·

كنتُ حين أراه مبتسماً أشفق عليه من المرارة التي تختفي وراء ضحكته الخافتة، وعندما تضيق عليه الأحوال والجدران يفر إلى الشوارع المزدحمة، وفي آخر التعب يمشي إلى مقعده الصخري على الكورنيش مغلقاً أذنيه بسماعتين متصلتين بجهاز الأسطوانات الصغير، شارداً وراء الأغنية والضوء الساقط من المصابيح على صفحة الماء، هل كان يدرك حركة الناس حوله؟ هل راقب عن عمدٍ مرور رجل وامرأة وتساءل عن وحيدته الغائبة؟ هل أشعل سيجارة من أخرى، وتذكر طفولته، وقبلة وداع أبيه له ساعة اختار الرحيل وراء رزقه وأحلامه؟ هل أحصى سنواته وخسارته وألقى في المساء بزجاجة مغلقة على رسالة لن تصلها؟ هل اختنق بدموعه التي يردها غصباً إلى داخله كيلا تفضحه؟ هل عَذَّب نفسه بما يكفي باستعادة وجوه الأصدقاء الذين تساقطوا طيبين وخونة، ولم يبق في حصيلته سوى ذكريات كرؤوس الدبابيس المغروسة تحت جلده؟ هل أيقظ ذنبه الكبير وعاقب نفسه بمزيد من التبغ والعبث لأنه كان غائباً حين رحلت شقيقته واسترد الله وديعته؟ هل جرّب طريقته الفريدة في النسيان؟ أعرفه حين يريد أن ينسى يغرق في تتبع التفاصيل واحدة·· واحدة، ويفرح بالذي يسكنه، هو كالبيت الذي هجره أهله، أغلقوا الباب خلفهم دون أن يعيروا جدران قلبه التفاتة، دون أن يتركوا على طاولة روحه رسالة مختصرة تشي بعودة محتملة.

هو راغب في التذكر لا النسيان، تلك طريقته الفريدة في أن يستحضر الهامشي والمهمل من ذكرياته، فيحفظها حريصاً على ألا يضيعها الوقت والغياب، يذهب وحيداً إلى الأمكنة القديمة، يتنفس الهواء ذاته الذي اقتسمه يوماً مع الغائبة المستحيلة، يأخذ الزاوية نفسها في المشهد القديم الذي كانت تملأه·

أعرفه حين يرغب في النسيان، لا يغير العطر الذي أهدته إليه آخر مرة، لا يبدل زجاجتها التي بقيت خلفها، يسمي الشوارع بأسمائها وألقابها، ويناجي البنايات التي تعبر كل صباح أمامها، ويكره أن يكون لغيرها، يستقصي رائحتها في العابرات اللاتي لا يصلن حدود قلبه، أعرفه حين يكره في الحب، يقتل أحقاده الصغيرة في الخفاء، يلتمس العذر لمن أهدته الخذلان، لكنه يموت في الفقد والخديعة، يرتب هزائمه كجنرال خسر حربه دون قتال·

- ما الذي تبقى من صديقي الذي أعرفه؟

- لا شيء سوى اسمه، لا شيء سوى هذا المقعد الحجري أمام البحر، لا شيء سوى سؤاله الأبدي: هل يمكن أن تبلغ القسوة هذا الحد؟

 

 

الأصدقاء الخونة

الأصدقاء الطيبون

 

أصدقاؤك الخونة·· تراهم فتحسبهم ملائكة ضلت طريقها إلى الأرض، يحفرون القبور بعناية واحتراف، ينصبون الفخاخ والمشانق والمقاصل، لا يحسبونها بالعيش والملح، ولا يحرمون على أنفسهم الدسيسة والتآمر، ماهرون في التلون، عباقرة في مدحك وذبحك، تمد لهم اليد فيقطعونها، تسند ظهورهم حين تنحني فيكسرون ظهرك حين تكون في غفلة، يكرهونك لأنك نقيضهم·

ناعمون كملمس جلد الثعبان، تحسبه حريراً فتجده كفناً جاهزاً لميتتك المدبرة، لا يذكرون فضلاً لأحد، ولا يحملون عرفاناً لمن يستحق، ولاؤهم لمن يدفع ويزيد، لمن يغذي غرائزهم السوداء، لا يخجلون من النظر إلى المرآة، يصففون الشعر وتقع عيونهم على عيونهم فلا تطرف خجلاً مما يفعلون، ينامون بعمق لا تؤرقهم موازينهم المثقلة بالضغائن·

أسماؤهم طيبة، هدوؤهم هدوء الخدعة والتربص، تصافحهم وأنت ترى بعين قلبكَ دمكَ في أيديهم، لا يحبونك ولو صرت ملاكاً خالصاً، يحبون ورطتكَ وسقوطكَ، وعثراتك، يصلّون ويبتهلونَ أن يقصفَ اللَّه عمركَ، وأن يقعدكَ المرض، وتخنقكَ الديون، يمصمصون الشفاه يوم يصيبك الأذى وهم فرحون فيكَ، أحلامهم أن تكبر مصيبتك وأن تنسد الطرق أمامكَ، وأن تخسر من تحبهم ويحبونك لوجه الله، حين يرونكَ قادراً يكرهون قدرتكَ وما تقدر عليه، وحين يرونكَ واقفاً لا تشكو علةَ أو تعباً·· يتعبون·

تعرفهم على حقيقتهم فتطلب لهم الرحمة ولا تكرههم، ويعرفونكَ على حقيقتك فلا يطلبون المعذرة ويحبونك، وفاؤك يحرق دماءهم، وصدقك يقوض أنيابهم، وطيبتكَ تفسد ما تعده شياطينهم، يطلقون ألسنتهم المرة في الخفاء، يأكلون سيرتك ويتربصون بآخر الأحداث والأنباء، يبدأون الكذبة والشائعة، ويصدقونها كالغرباء، غايتهم أن تخسر، أن تتعثر، أن تتراجع ولو خطوة للوراء، خسارتك ترضي جنونهم، خسارتك تطفئ أحقادهم.

أصدقاؤك الطيبون·· تسعك قلوبهم حين تضيق بكَ الحياة، هم إخوة لم تلدهم أمك، يفزعون إذا مسك الضر، وتدمع عيونهم إذا احتبست في عينيك الدموع، بيتهم بيتكَ، أسراركَ في خزائنهم الموصدة، شركاء ذاكرتك وذكرياتك، إذا رويتَ عن نفسكَ كانوا في منتصف الرواية، وإذا وصفت الناس والأمكنة سكنوا قلب الحكاية، يقاسمونك التاريخ فرحاً·· وحزناً، ويقسمون بالله أنكَ الصديق الصدوق، وتقسم بالله أنهم الملاذ والسند، يصدون الأكاذيب عنك، ويضيئون طريقك فلا ينكسر ظهركَ، ويكشفون زيف أعدائك لمن لا يعرفك·

طيبون·· لا يبيعونك بمال الدنيا، تغادرهم حيناً من الوقت فلا يتغيرون، وتقيم بينهم فلا يتذمرون، تسألهم فيملأون قلبكَ، أسماؤهم قرينة اسمك، وأطيافهم تلون روحك بالطمأنينة، يدفعون عنك الأذى ولو تأذوا، يرجحون كفة إيمانك بالصدق والمحبة، ويسألونكَ ألا يقتلك الحزن حين يكاد يقتلك الحزن على ما يفعله الناس في الناس·

 

 

 

 

خائب الظن

 

وقفتُ في موقف الطيران·· ولم أستطع

جهزتُ روحي وجسدي وقلتُ: أجرب أن أمضي بعيداً خلف الضوء واللون، وأتبع العطر حين يرج البدن، فما طارتْ الروح، وما ارتفع الجسد، قلتُ: ما الذي جرى؟ جناحاي ثقيلان، سقط الريش عنهما، لا يضربان الهواء كما كانا، ولا يصعدان بي إذا سرتْ في الدم فورة الوجد، أنا الطائر المسكون بالريح لا أستريح إذا تبدلتْ أحوالي وتسمّرتْ قدماي وسقط لساني

وقفتُ في موقف الطيران·· ولم أستطع

كنتُ وحيداً في ركنٍ قصيّ، في مكان مسائي غارق بين العتمةِ والضوءِ، كنتُ كمن قتل أحبابه بيديه لينجو من محبتهم، فما ازداد إلا محنة ووحدة، كنتُ أتابع الطيور على أشكالها وهي تحلق خفيفةً، تستبدل أرواحها باللهب صاعدة في حرائق بهجتها، تطير في فضاءٍ بلا سقف، ترقص كما النار حين يعبرها الهواء، قلتُ: يا لخيبتي، انكسرتُ وثقلتْ أطرافي، كل مدينة تركتْ في القلب رسمها، كل امرأة وضعت أحمالها في الروح، كل أخٍ لم تلده أمي أورثني الفقد والهم، وجه التي أُنادى باسمها يوم البعث على وجهي، سمرة أبي قوتي وضعفي، أشقائي نار دمي، المحبة ثقيلة، جناحاي مقيدان كيف أتخفف من أثقالي؟ كيف أصبر على غصة وأستعيد خفتي؟ متى أتحرر مما صنعتْ يداي، مما رأتْ عيناي، ممن مشت إليهم خطاي؟ كيف أنفلت من جدارٍ بحجم الأرضِ·· وأطير·· أطير، خاب ظني، خاب ظن الوحيد، الضال، الغريب، الباكي، المطرودُ من نعمةِ الاطمئنان، المشدودُ كقوسٍ ووترٍ، المنتمي إلى قلقٍ، المأخوذُ بنظرة عينٍ ورائحة عطرٍ، المسلوب إرادته إذا رق وشف وتكلم عن الحب، المجنونُ بالتجربِة، الحائرُ خلف هذيانه

أنا الخائبُ ظنه، ظننتُ أنني سأمضي بلا أثرٍ، وأنني سأصرخ بلا صدى، وأن رائحتي ستموت ورائي، وأن موتي نهايتي، لا هوية تدل عليّ إلا الفاتحة وما تيسر من السرد الممل حين يستعيد الآخرون بعضاً من سيرتي

وقفتُ في موقف الطيران·· ولم أستطع·

فما حيلتي؟ ما حيلتي وأنا الذي يخاطب نفسه:

الأرض من تحتك، ومن فوقك، ومن حولك

أنت الذي اخترتَ ورضيتَ، لم يجبركَ غيركَ على ما تضيق به

المحبة ثقيلةٌ، تخفف ممن تحب، طرتْ وقطعتْ الشرق والغرب، جربتْ الذهاب والإياب من غصنٍ إلى غصنٍ، تذوقتْ الحلو والمر، نمتْ على حريرٍ وشوكٍ، أحببت جنونكَ وفضولكَ، حزنك وبهجتكَ، أعطيتَ روحكَ لمن يستحق ومن لا يستحق، وما استرحت لغير طيرانكَ، أي منفذٍ تريد؟ أي منقذة تطلبُ، أي خفةٍ تهوى، وأنتَ·· أنتَ، كلما وقعتْ امرأة على جناحيكَ توجستَ وصرختَ خائفاً من ثقل الأرض

 

 

 

الرجل بالغليون

في مشهده الأخير

 

خرج لي صديقي القديم من بين الرماد

الرماد الذي جاهدت طويلاً أن يكون منطفئاً، غير أنني فشلت في أن أجعله كومة هادئة، وهبة ريح صغيرة من رسالة خطية قد تحول الرماد إلى لهب مشتعل بالتفاصيل·

هكذا وذات صباح قريب وجدت الشاعر سماح عبد الله أمامي حاضراً ببلاغته وشاعريته ودعاباته في سطور رسالة أنشرها كاملة لأن ثمة روحاً جميلة تسكنها:

( الصاحب البعيد

صباح الخير أو مساؤه

يا أخي، أنا أشتاق إليك، ولا أدري إلى متى ستظل هناك، كما أنني لا أرى سبباً مقنعاً لعدم لقائنا في إجازاتك ولو لاحتساء الشاي، لمدة ثلاثة أرباع الساعة أعرف فيها أخبارك، وأطالع وجهك المؤرق·

الصاحب البعيد

صباح اليوم تم إعلان جوائز الدولة، وقد منحوني جائزة الدولة التشجيعية في الشعر لهذا العام عن ديواني (أحوال الحاكي)، بلغت بهذا منذ ساعتين فقط عبر التليفون وبين رنين الهاتف الذي حمل لي تهاني الأحباب، فوجئت بتليفون يأتيني من بلدة تخصصت في إنجاب الشعراء ورؤساء الجمهورية، لم يهنئني بالجائزة، لأنه لم يعرف بعد، ولكنه قال لي إنك حدثت الناس في مجلة " المرأة اليوم " عن مجموعة من الشعراء وإنك ذكرتني على رأس من ذكرت قلت له يا أخي، يا سليل البلدة التي تنجب الشعراء ورؤساء الجمهورية، أنا في منطقة لا تأتيها المجلات الفخيمة، وأكبر مجلة تأتي لها مجلة " سمير"، هلا قرأت لي ما جاء عني في " تأويل "·· وكان أن قرأ·

ومن أخطائه في القراءة أدركت أنه قد يصبح رئيساً للجمهورية، لكنه أبداً لن يصبح شاعراً ومن لهجته السريعة في القراءة أدركت أنك مازلت دافئاً، ومن سرسعة صوته الناشف أدركت أنني اشتقت إليك، ومحتاج إلى القعاد معك جداً·

سأقول لك بعضاً من أخباري:

استطعت، بعد أكثر من عشرين عاماً في القاهرة أن أشتري شقة، لدي ثلاثة أولاد، أعمل مديراً لتحرير سلسلة كتابات جديدة، أصدر بين الحين والحين، ديواناً شعرياً، مهتم اهتماماً خاصاً بالكتابة للأطفال، أجلس في المقاهي أحياناً، أتابع سير الفتيات، أصحابي قليلون، أحوالي تصيبها بعض الارتباكات لكنها تسير، أقرأ كثيراً، أحلم كثيراً، أعاني كثيراً·

أنتظر صدور ديوان " الرجل بالغليون في مشهده الأخير"، أنتظر خطابك المقبل، أرفق لك واحدة من قصائدي الأخيرة، أذيل خطابي بعنواني " علك تحتاجه" ورقم تليفوني " عله يلزمك "

خذ كل الحب

سماح عبد الله الأنور)

..........................

هكذا خرج لي من بين الرماد

كنت أحسب أن الأيام مضت وأن الأصدقاء القدامى قد أصبحوا صوراً معلقة على جدران الذاكرة، وأن استعادة الذكريات مع رشفة القهوة ورائحة التبغ أجمل من عودتهم ثانية بلحمهم ودمهم، كنت قد دربت نفسي على هذه الفكرة وتعايشت معها، لم أقطع صلاتي بمن كنت أعرفهم عمداً، لكنني أيضاً لم أسع إلى استردادهم غصباً أو تحايلاً على فعل الزمن ودورته، لأن المسافات أحياناً تصنع القطيعة بيننا وبين الآخرين، ونقبل بها راضين ونغمض عيوننا عما " هناك "، عما تركناه خلفنا حتى لو كان جميلاً، وننفق أيامنا باحثين عن ملاذات أخرى، عن بشر آخرين نطمئن إلى أخوتهم وقلوبهم، وتجرنا السنوات عبر محطات ليس كل ما فيها طيباً، ليس كل ما فيها شريراً وقاسياً، هي الحياة نتقلب على فراشها اللين الناعم تارة، والمغطى بالشوك والحصى تارة أخرى·

لكن هل ننسى؟

هل ننعم بالهدوء؟

هل نغلق أبواب ذاكرتنا جيداً وراءنا أم أنها تظل مواربة على ما فات؟

أظنها تظل مواربة على ما فات، لا نقدر مهما حاولنا أن ننفصل هكذا عما نعرفه وعشناه من قبل، ولا نقدر مهما حاولنا أن نكون في لحظة أشخاصاً بلا تاريخ، تبقى الشوارع لها رائحة لا تنسى، وتبقى الأماكن لها حضور لا يغيب، وتبقى تفاصيل البشر الغائبين مثل رؤوس دبابيس حادة مغروسة في القلب·

ولم يتركني الصديق سماح عبد الله ظامئاً إلى جديده الشعري، وأرفق برسالته قصيدة فتحت قلبي على الصباحات الندية، على موجات بحر أزرق، على أيام كانت الكتابة فيها عن الحب ماءنا وخبزنا، فيما لا يزال هو ذاته قادراً على العبور من " نفق ضيق" اسمه الحياة متشحاً بالأناشيد·· والبرتقال·· والغيم.

 

 


في حضرة الأستاذ (1)

ذلك اليوم·· تلك التفاصيل

 

دون مناسبة تذكرت ذلك اليوم البعيد، ذلك اليوم الذي تفصلني الآن عنه سنوات طويلة محمّلة بالكثير من الأماكن والوجوه والذكريات، والآن، وأنا أقف في شرفة تطل على ما فات، رأيتني أستعيد تفاصيل اليوم الذي ذهبت فيه إلى بيت الكاتب الراحل أحمد بهاء الدين، كان وقتها لا يزال على قيد الحياة، راقداً في فراشه بعد إصابته بمرض غريب في المخ منعه من الكتابة ومن تفاصيل الحياة اليومية ومن الكلام إلا قليلاً

كنت واحداً من كتيبة من الصحفيين الذين جنّدتهم الأستاذة سناء البيسي رئيسة تحرير مجلة " نصف الدنيا" حينها لإعداد ملف خاص عن أحمد بهاء الدين بمناسبة عيد ميلاده التاسع والستين، كان احتفاءً وعرفاناً لازمين لضمير كاتب عربي ظل طوال مسيرته وفياً لعروبته وقضايا أمته، كنت أعلم أن مرضه الغريب الذي احتار فيه الأطباء سيحول بيني وبين مقابلته، لأن ذلك لم يعد ممكناً على الإطلاق، لكنني استسلمت لاحتمال حدوث ما أتمناه

دون مناسبة استعدت تفاصيل ما جرى، وإن كنت مقتنعاً بأن الطيران إلى الخلف، والتحليق في فضاءات مضت هو " حالة استرداد جائزة "، ويكفي القلب أن يمتلئ بالحنين لتصبح المناسبة حاضرة بكل شروطها، وهذا ما كتبته في ذلك اليوم عن ذلك اليوم

لم تبق سوى دقائق، هكذا تشير عقارب الساعات في الأيدي، وعلى الحوائط، وفي الميادين، دقائق ستمر مثل ملايين الثواني، والدقائق التي مرت من قبل، لكنها في ذلك اليوم كانت اليوم تختلف، ثمة رغبة تكاد تكتمل حين تتحرك السـيــارة في اتجاه مــنزل " الأستاذ"·

عندي رغبة جارفة في احتواء المكان، وإيقاف الزمن داخله، هي رغبة في الإحاطة بالعالم الخاص للكاتب الكبير·· وربما اكتشاف العلاقة بين المكان، وصاحبه، وتأثير كل منهما في الآخر·

هذه الدقائق التي سبقت الزيارة لم تكن هامشاً بلا معنى، لم تكن مساحة محايدة، بل مساحة مشحونة بالانتظار، كانت أيضاً جزءاً من الزيارة ذاتها·

لم أكن جاهزاً يوم الزيارة سوى للزيارة نفسها، وفي الساعة الثانية عشرة ظهر ذلك اليوم البعيد تحركت سيارة الأستاذة نرمين القويسني وعلى المقعد الأمامي جلس المصور الفنان أنطون ألبير، وجلست في المقعد الخلفي صامتاً، ومأخوذاً بحوار داخلي، ومشاعر متناقضة من الفرح، والترقب، والانتظار·

كنت أفيق بين لحظة وأخرى لأتابع ذكريات نرمين القويسني التي عملت سكرتيرة لأحمد بهاء الدين في بدء حياتها العملية، كانت تروي باعتزاز عن سيارتها التي جلس فيها من قبل توفيق الحكيم، وإحسان عبد القدوس، ويوسف إدريس، وكانت تنتقل في حكاياتها إلى سنوات عملها مع أحمد بهاء الدين فتقص ما لا نعرفه، وتروي مداعبات الكبار وقفشاتهم·

وهكذا أطبقت السيارة على مشاعري، وبدت هي الأخرى جزءاً من أيام أجري خلفها، وأتتبعها، حتى السيارة أصبحت اليوم مكاناً يجب زيارته·· وأنا الآن داخلها أتحسس المقعد باحثاً عن أثرٍ ما·· عن رائحةٍ لم تصلها يد الغياب المرير.

لم أشعر خلال وجودي في السيارة بأنها تتحرك إلى الأمام، إلى مكان قريب سوف نصله خلال دقائق، أحسست بأنني داخل " عربة الزمن"، فهذه السيارة تتحرك إلى الخلف، تعود إلى الماضي، وفي لحظة ظننت أنها حيلة مقصودة لأخذي إلى زمن أحبه، أقول " حيلة " وأعني " ورطتي" حين أجد نفسي فجأة جالساً إلى: توفيق الحكيم ويوسف إدريس، وإحسان عبد القدوس، وقريباً من " أحمد بهاء الدين" في سنوات شبابه·

ودون قصد وجدتني " ألعب " مع " عربة الزمن "، هي تشدني للخلف، وتنطلق للوراء، وأنا أجذب نفسي للأمام، وأتحرك بمشاعري إلى منزل " الأستاذ " بسرعة مضاعفة·

وأسلمت روحي لطائر الخيال الخرافي الذي حملني إلى بيت أحمد بهاء الدين، وقد شطح الخيال بي حتى رأيته يستقبلنا بابتسامة مشرقة، ويفيض علينا من كرمه، وفكره وتطرفت في زيارتي الخيالية، وتوقعاتي لأقصى حد، ولم أستيقظ إلا على صوت يقول: " هذا هو البيت " ولم يكن هو البيت فقد تغيرت، وتشابهت معالم البيوت، والشوارع، ولا أحد يعرف أحمد بهاء الدين هنا، وبالمصادفة تحول الخطأ في تحديد الشارع إلى صدمة قاسية لأن خمسة أشخاص هزوا أكتافهم عندما سألنا عن " الأستاذ "، هزوا أكتافهم، ومضوا في طريقهم، وأحسسنا لحظتها بأننا نغرق بالفعل في محيط هادر من الثلج، والغريب أننا لم نبتلع صدمتنا، ونصمت بل قلنا في نَفَس واحد: لو سألنا عن لاعب كرة أو ممثل فاشل فإن ألف شخص سيدلنا عليه!

اقتنعنا في النهاية بأن المقارنة لا تصلح، وبعد عشر دقائق تقريباً من البحث عثرنا على الشارع، والبيت، وتنفسنا الصعداء داخل المصعد، وزاد ارتباكي عندما وقفنا أمام صمت الباب، لم أشعر بأنه مجرد باب شقة مكتوب عليه اسم " أحمد بهاء الدين" أحسست أنه " باب العالم " أو " باب إلى العالم كله"، أقف الآن إذن أمام باب مُغلق، وخلفه تاريخ كامل، سأحتاج إلى ألف عين لأرى كما يجب، وألف عقل لأفهم، وأرصد كما يجب، وأحتاج كذلك إلى ملايين الأصابع لأتحسس مكتبه، وأوراقه، وكتبه، وقبل أن يُفتح الباب، كانت حواسي كلها في حالة استعداد قصوى·

 

 

 

                            في حضرة الأستاذ (2)

                      ·· نائم في السرير

 

عندما استقبلتنا السيدة ديزي زوجة الكاتب الكبير بسحابة ممطرة من الود والترحاب اكتملت تماماً الصورة العائلية لأسرة " الأستاذ "، خاصة حين انضمت إلى الجلسة ابنته ليلى الدبلوماسية في وزارة الخارجية، ثم بعد قليل حضر زوجــها الدبلوماسي أمجد عبد الغفار·

دخول شقة أحمد بهاء الدين يملأ مشاعرك بشحنة هائلة من الارتباك، وبالذات إذا كنت قد انتظرت هذه اللحظة طويلاً، لم نجلس في الصالون في مدخل الشقة، وإنما استقر بنا الحال في غرفة داخلية وسيعة أشبه بالبهو، في بدايتها صالون كلاسيكي، وفي نهايتها صالون عربي، بالإضافة إلى مكتبتين صغيرتين اشتراهما أحمد بهاء الدين من منطقة   " العطارين" منذ سنوات طويلة مضت، وفي المنتصف يستقر مكتب صغير أنيق، مكتب خشبي صامت، ولعله حزين، هذا هو مكتب أحمد بهاء الدين وبجواره ماكينة تصوير أوراق·

كان عليّ أن أجول ببصري طويلاً في جدران الشقة لأشاهد كل هذه اللوحات المدهشة لكبار الفنانين، كأنني في متحف يجمع بين تيارات، ومدارس فنية مختلفة، هذه لوحة لتحية حليم، ولوحة لحسن سليمان، وثالثة لآدم حنين، ورابعة لجاذبية سري، وخامسة لإنجي أفلاطون، وسادسة ·· وسابعة، وفي الشقة تشدك مشاهد التماثيل الصغيرة والأنتيكات، على المكتبة الأولى تمثال غاندي، على رف المكتبة الثانية تمثال دون كيشوت·· وفجأة أنهيت متابعة المكان بالسؤال

سألت مدام ديزي عن الكاتب الكبير·· عن صحته وأحواله؟

فأجابت في هدوء: بخير!

طرحت عليها سؤالاً ثانياً بفضول غريب: أين هو الآن؟

تمسكت هي باختصارها البليغ: نائم في السرير!

وكأنها قرأت سؤالاً ثالثاً يرقص حائراً في صدري، فأضافت: لا يمكن مقابلته·

وخيم صمت له رائحة الغياب، والفقد وطعم الحنين، صمت لا يمكن وصفه قاس، لا قدرة لأحد على احتماله أو مقاومته، ترى ماذا يحدث الآن لو قمت مندفعاً وفتحت حجرته التي راقبت بابها منذ دخولي الشقة، وحتى انتهاء الزيارة؟ ماذا يحدث لي لو أنني غافلت كل من حولي، وتسللت كاللص على أطراف أصابعي، وفتحت الباب ورأيته في السرير؟ لن أوقظه·· سأملأ صدري من هواء غرفته، سألمس غطاءه وربما جبهته، سأقترب منه في حذر، وخوف، ورهبة مثل اقتراب تلميذ صغير من أستاذ جليل، سأهمس بصوت خفيض: ألف سلامة يا أستاذ بهاء!

عدت من خواطري إلى حالة الصمت التي أصابتنا جميعاً، هربت منها بإعلان رغبتي في اكتشاف مكتبته، واخترت بعض عناوين الكتب التي تستند إلى بعضها في سكون: ملفات السويس لمحمد حسنين هيكل، ومعالم تاريخ الإنسانية لـ" هـ· ج· ويلز" ،  وفي منزل الوحي للدكتور محمد حسنين هيكل، وتاريخ الجبرتي ، وتاريخ مدينة دمشق للحافظ بن عساكر، والحروب الصليبية لحسين أحمد أمين ، وتاريخ شعوب وادي النيل في القرن التاسع عشر، والموسوعة الفلسطينية·

تقول مدام ديزي: لقد تزوجت أحمد بهاء الدين عام 1959 في شقة غرفة وصالة،  ثم انتقلنا إلى هذه الشقة عام 1960، وقد عرفته بعد موقف غريب، فقد كان رئيساً لتحرير مجلة " صباح الخير" وفي أحد الأعداد كتب مقالاً عن معسكرات الاعتقال في الاتحاد السوفييتي، واستفزني المقال بصورة دفعتني لأن أبعث إليه برسالة أتهمه فيها بأنه عميل أمريكي يحاول تشويه الاتحاد السوفيتي، وذكرت في نهاية الرسالة اسمي والكلية التي أدرس فيها، ونسيت الأمر تماماً،  حتى فوجئت ذات يوم بخطاب منه على عنواني في الجامعة يقول لي فيه إنه من الأفضل أن أذهب إليه لمناقشته وجهاً لوجه بدلاً من الاتهام القاسي الذي ألصقته به، ولم أذهب لمقابلته، ومضت الأيام حتى رأيته مصادفة يدخل إحدى المكتبات في شارع قصر النيل، وكنت لحظتها جالسة إلى صديقتي صاحبة المكتبة، فأشارت إليه وهي تقول: هذا هو أحمد بهاء الدين، وبالفعل تعارفنا في ذلك اليوم·

- هل أقنعك بما كتبه في المقال؟

- تجيب مدام ديزي: من يومها، وهو يقنعني بوجهة نظره، وتضيف: كان يحرص دائماً عندما يسافر خارج مصر على الكتابة إليّ، فكلما ذهب إلى بلد أرسل خطاباً، لم تكن كلمات خطاباته سطحية، حتى في الكتابة عن مشاعره كان بليغاً وحساساً، وأذكر أن له رأياً مهماً في المرأة، وهو أنها لا بد أن تكون ذات شخصية متكاملة، وأن تكون قوية، وكان لديه اقتناع كامل بأن ما يكتبه وينادي به هو ما يعيشه بالفعل، أو ما يستطيع أن يفعله، ويعيشه، فإذا كتب على سبيل المثال عن المرأة وحقوقها فإنه على استعداد لأن يعطي هذه الحقوق لزوجته، لقد كان صادقاً مع نفسه، ومع الآخرين، ولم يعرف الأقنعة أبداً في حياته، ولم يكتب سطراً واحداً لا يؤمن به، وأعتقد أن الناس أحبوا بهاء لإحساسهم العميق والصادق بأن هذا الكاتب لم ·· ولا يضحك عليهم·

توقفت مدام ديزي عن الكلام

وخيم الصمت مرة أخرى على جلستنا، وإن كانت الأسئلة لا تزال تضج في صدري·· أذكر أن ذلك اليوم لم يكن يوماً مكرراً، ربما كان جميلاً، وحزيناً في آن واحد، لكنه أبداً لم يكن ثقيلاً، في تلك اللحظة كان الثقل الوحيد هو هذا الهم الذي يصدره مرض الأستاذ، هذه الخلايا الصغيرة في المخ التي تموت ولا تتجدد بلا سبب·· كانت التفاصيل كثيرة، والحكايات بلا نهاية·

 

 


في حضرة الأستاذ (3)

·· الذي يضحك ·· ولا يتألم

 

ما زلت في بيت أحمد بهاء الدين··

ما زلت مأخوذاً بما أراه·· وأسمعه من زوجته السيدة " ديزي" وابنته " ليلى"

ما زلت راغباً في أن أراه ولو لثانية واحدة وهو راقد على فراش المرض

ما زلت أذكر تفاصيل اللحظات التي عشتها هناك

مرة أخرى عدت لأواجه صراعي مع باب الحجرة التي يرقد خلفها الكاتب الكبير، إنه باب مثل ملايين الأبواب، تكفي يد واحدة لفتحه·· يدٌ واحدةٌ تدير المقبض، لكن اليد تعجز عن تحقيق الحلم، والباب الصامت يومئ، ويكاد يشير، وينطق: افعلها··

ولم أفعلها احتراماً لحقيقة لا مفر منها، ( مقابلته ممنوعة )، لكن ماذا يفعل الآن؟ هل استيقظ من نومه؟ هل قال شيئاً أو طلب من الممرض شيئاً ما؟ ما الذي يحدث خلف هذا الباب؟

وصارحت زوجته بهذه الأسئلة، فأجابت مدام ديزي: يستيقظ عادة كل يوم في التاسعة صباحاً، يدخل إليه الممرض ليقدم له الإفطار، وهو عبارة عن فول مصفّى، وكوب لبن به دواء مقوٍ، ثم كمية أدوية مختلفة، وإبرة أنسولين، بعد ذلك يدخل الحمام ويخرج ليجلس في البلكونة حتى الساعة الـ12 ظهراً، وفي هذه الفترة ندير له الكاسيت وبالتحديد الموسيقى، وأغنيات عبد الوهاب وعبد الحليم القديمة، ويمكن أن يقرأ مانشيتات الصحف، ونحن نحاول إبعاده عن أخبار الكوارث وفي الساعة الثانية نجهز له الغداء المكوّن من صدور الفراخ أحياناً، والخضار، وهو أكل مهروس ثم كوب لبن أو عصير برتقال، وفي الساعة الرابعة يتناول " شوية مهلبية "، أما العشاء ففي الساعة الثامنة مساء·

فترة مشاهدته للتليفزيون تبدأ من الرابعة وحتى الثامنة مساء، وكما قلت فإن مشاهدة الكوارث أو الاستماع إلى الأخبار المقبضة من الممنوعات التي نبعده عنها، لذلك نختار له المسلسلات والأفلام الهادئة، وأذكر أنه استمع أثناء غزو العراق للكويت إلى الأخبار فتأثر كثيراً، وقال:  ليه·· ليه؟

-  هل شعر بالزلزال الذي وقع مؤخراً؟

-  لا··

-  هل يضحك؟

-  وتجيب مدام ديزي بهدوء، نعم·

-  وأسألها: هل تتحدثين معه، هل يرد عليك؟

-  وبالهدوء نفسه تقول مدام ديزي: أقول له صباح الخير يا بهاء·· وإذا لم يأكل أسأله عن السبب فيقول: أسناني·· ثم يسأل: فين ليلى، فين زياد؟ ويسأل أيضاً عن أخواته، وقد توفيت أخته الكبيرة، ولم نخبره·

-  ألم يسأل عن مرضه، عن حالته؟

-  لا··

وتعود مدام ديزي للتحدث عن تفاصيل حياة أحمد بهاء الدين مع المرض: بعد أن يتناول العشاء في الثامنة مساء ندير له الكاسيت مرة أخرى، لكن بأغنيات أم كلثوم، ثم ينام، وخلال كل هذا لا يفارقه المرض، ولا نغفل نحن عنه لحظة واحدة·

-  والأمل في العلاج··؟

-  تقول مدام ديزي: آخر مرة كنا في أمريكا قال لي الأطباء: إن كل ما نستطيع القيام به هو أن يرتاح فقط·· وأحمد الله أنه لا يتألم!

وبدا أنها هي التي تتألم الآن لذلك، ابتلعت بقية أسئلتي، وعلقت بصري بتمثال غاندي،  وأنقذت الزميلة نرمين القويسني الموقف بسؤال عن حب أحمد بهاء الدين للرسم، وقد جاء السؤال في وقته ليُخرج مدام ديزي من أحزانها التي ملأت عينيها·· وحين تكلمت قالت: بهاء كان يتمنى أن يكون رساماً·· كان ( غاوي رسم )، وفي إحدى المرات كنا في الإسكندرية ( وطلعت معاه ) أن يتفرغ للرسم، وبالفعل اشترينا كل ما يلزمه من أدوات وألوان·· وبدأ يرسم ثم توقف·

وقالت مدام ديزي: بهاء·· نائم الآن في السرير·

وقالت: بهاء·· خجول عند مدحه، لكنه ليس متحفظاً·

وقالت: بهاء لا يحب البهرجة·

وقالت: بهاء·· يهتم بالأقلام " الشيك"

وقالت: لم تتغير علاقتي به حتى اليوم·

وقالت: ليلى أخذت عن أبيها صفات كثيرة مثل الذكاء، وطول البال، والصبر على الناس، والهدوء، وعدم العنف في الكلام·

قالت مدام ديزي، لكن عبارة واحدة ظلت ترن حولنا طوال زمن الزيارة، عبارة واحدة- من بين ما قالته- تصلح لأن تكون مُفَتَتَحاً لأي حديث عن الكاتب الكبير أحمد بهاء الدين، فهي عبارة تؤرخ للحضور، والغياب··· ( بهاء··· نائم الآن خلف هذا الباب )

نحن الآن نتقاسم هواء الشقة معاً، الآن تمر نسمة هواء من أمامنا، وتدخل صدورنا ثم تخرج محملة برائحتنا، وربما تتسلل إليه في غرفته، ربما تدخل نسمة الهواء ذاتها إلى صدره فتقول له: إننا هنا·· بالقرب منه·· جئنا من أجله·· جئنا بملايين الكلمات، وبملايين المشاعر الصامتة التي سنضعها في كل مكان بالشقة·· في كل مكان جلس أو وقف أو نام فيه·

نحن هنا بالقرب منك·· فهل تسمع حديثنا عنك؟

كان هذا السؤال الصامت آخر ما سألته وأنا أغادر البيت مسكوناً بالحزن والأسى، وبعدها، بعد أن مرت عليه شهور في سريره·· رحل أحمد بهاء الدين، تاركاً ذلك اليوم الذي كنت فيه قريباً منه، يوماً لا أقدر على نسيانه·

 

 

 

احتمالات غير ممكنة

كتبت لي صديقة ذات يوم رسالة حزينة·· كانت داخلة لتوها في تجربة ربما أثقلت جناحيها، فلم تجد حيلة للطيران سوى الكتابة لشخص ما بعيد لا يراها ولا تراه، فقط أرادته أن يكون شاهداً ومتلقياً دون أن تتوقع منه رداً

قالت الصديقة: " لطالما تمنيت أن أكون محارة راقدة في جوف محيط عميق، ساكتة في قلب الماء لا تؤرقني التفاصيل الصغيرة، ولا تملأ رأسي الأسئلة السوداء··

أتذكر كلماتها اليوم وأنا أسأل نفسي ومن حولي: لو اخترت أن تكون شيئاً، أو تكون على هيئة ما، ما الذي تود أن تكون عليه؟، كان سؤالاً افتراضياً تورط كثيرون في الإجابة عنه، أول من تلقت السؤال أخذت نفساً عميقاً وألقت نظرة على سقف الحجرة، ثم قالت: أود أن أكون عشبة برية فوق جبل لم يصله أحد، هناك سأكون متوحدة بروحي، عميقة في وحدتي، لا أصدقاء ولا صديقات لي سوى بضع عشبات صغيرة متناثرة، سيكون لي أن أحدق في زرقة السماء بلا نهاية، أنتظر المطر وأحصي النجوم ليلاً، وأنصت في الظلمة دون أن يسرق قلبي أحد، دون أن أحمل ضغينة لأحد، دون أن أبكي حزناً على أحد، سأكون عشبة جبلية طيبة مكتفية بذاتها، وشاهدة على براءتها الجميلة·

صمتت التي تمنت أن تكون عشبة على قمة جبل، وتحدث آخر فقال: كنت أود أن أكون نمراً يركض في غابة، يسابق الريح، ويقف على حافة صخرة محدثاً الأفق عن روحه، لا يكترث بالليل حين يلقي بظلاله الثقيلة على المكان، ولا يخاف إلا قليلاً حين تخور قواه، ويغلبه النعاس دون أن يلتمس الحيطة والحذر، وحين يقتل يبحث عن حياة·

وقال ثالث: كنت أرغب في أن أكون جداراً في بيت قديم، أرى وأسمع ولا أتكلم، أحفظ الوجوه التي تعبر أمامي، أضحك في سري وأنا أرقب المؤامرات الصغيرة، وأنا أشاهد الأحقاد تكبر في الظلام، تمنيت أن أكون جداراً مسالماً مشيداً من الطين لا من الحديد والأسمنت، ربما في قرية نائية، في مدينة لم تفسدها الخيانات، آه·· لو صرت الجدار الذي لا تهدمه يد، ولا تعبث بوجهه الريح، جدار على صدره صور العائلة ورائحة الذين تركوا أصواتهم في الفضاء·· وغابوا

وقال رابع: كنتُ أحلم أن أكون عصفوراً صغيراً على شجرة، خفيفاً وفي حجم قبضة اليد، يطير ويهبط مسكوناً بحبة قمح، تسكره اللحظة فيغني، وحين يطلق جناحيه ويفردهما لا ينظر خلفه، ضقت أنا بما خلفي، ضقت بالذكريات التي تملأ صدري، أريد أن أصبح حراً، وأن أموت على غفلة، ربما لو كنت عصفوراً لتمنيت أن أموت بحجر طفل فجأة، وأن أسقط في مياه تجري، وأذهب إلى حيث لا جنازة ولا بكاء ولا اسم لمكان·

وقال الخامس الذي كان يتابع مفكراً: كنت أتمنى أن أكون بجناحين، كنت أتمنى أن أطير لا أن أمشي، كنت أتمنى أن أكون صقراً يعبر الأرض والبحر، يجتاز الأمكنة والأزمنة، صقراً مملوءاً بالكبرياء والعزة، عيناه يقظتان وحارتان، وقلبه يتسع كما اتساع المدى الذي يطل عليه·

وقالت السادسة: وددت يوماً أن أكون طاقة دون جسد، طاقة تتحرك، تذهب أينما تريد، طاقة لا تحمل سؤالاً يؤرق ليلها، طاقة مؤمنة بالله، بالخير، لا أحتاج وقتها إلى البحث عن الاكتمال، ربما أكون ناقصة شيئاً، ناقصة لحاجة، لكنني أبداً لن أكون ناقصة للحب، لو أنني طاقة خلقها الله في هذه الحياة سأكون آمنة من الخوف، سأكون ربما قادرة على السفر إلى الشمس، إلى القمر البعيد، إلى نجمة ما، وربما لو احتجت يوماً إلى ارتداء جسد، إلى أن أكون على هيئة لاخترت أن تكون هيئتي الماء، قطرة في بحر لا تموت·

وقال السابع: أكون أي شيء إلا أن أكون ثعباناً، لا أود أن أكون صانع الرعب والسم، لا أود أن أزحف في الظلام خبيثاً وقاتلاً، لا أرغب في التسلل واقتناص الفرص تاركاً لضحاياي الألم والموت، أود أن أكون بأقل قدر من الشر والكراهية، لكنني لا أحلم بشيطان في ثوب ثعبان·

وقالت الثامنة: في طفولتي حلمت أنني سلحفاة، تمشي ببطء وتعيش أطول مما يجب، أحتمي بطبقات من الجلد، جسدي بيتي أدخل فيه هاربة من الرعب والخطر، أحصي السنوات بلا حصر، طعامي العشب ونزهتي تحت الشمس والماء، سلحفاة لا تكترث بالوقت لا تحمل في معصمها ساعة، سلحفاة في أرض وسيعة وبعيدة عن الناس، غنائي الصمت، وحاجتي تحت قدمي··

وقالت التاسعة: أود أن أكون نغمة في لحن، نغمة تخرج من فم آلة قلبها الموسيقى، نغمة حزينة تشد القلب من شرايينه وتسحبه خلف ما مضى، أرغب في أن أكون النغمة السوداء، شفافة وجارحة كحد سكين، لا أريدني نغمة فرح تسقط في النسيان، الحزن يبقى كشاهد قبر، وأمنيتي أن أكون صائدة الأرواح وسيدة الذكرى

وقال العاشر: لا أريد أن أكون نملة، هذه الصغيرة التي تتحرك ضعيفة وتموت تحت أقدام العابرين، لا أود أن أكون عقرباً عمياء تتحسس طريقها على التراب والأجساد، لا أريد أن أكون كلباً رغم وفائه، ولا حماراً رغم طيبته، ولا ذبابة أو فأراً، أريد أن أكون أنا كما أنا، طيباً وشريراً، عابساً وفرحاً، ومسكوناً بالأمل والخوف

وقالت الأخيرة: أود أن أكون وردة ولو أنها تموت سريعاً

 


أحزان شجر الصفصاف

 

خلا بيته من طعم العسل وطنين النحل بعد عام من سفره، وبدت الصناديق الخشبية خلف البيت كشواهد قبور، واختفت علب العسل الصفيحية التي كانت تدور على جيرانه وزواره كهدايا لا ترد·

كانت ليالي جني الحصاد الشهي عامرة بالسهر والحكايات، صوت " الفرّاز"  الذي تدور في جوفه البراويز الشمعية يصنع خلفية مناسبة لحماس الفرحين بخيوط العسل المختلطة بقطع صغيرة من الشمع الأبيض والبني، ينفتح فم " الفراز"  لينقل الحصاد الحلو إلى مصفاة من قماش خفيف شفاف، يتحرر بعدها العسل صافياً له لون وطعم زهور وأشجار المواسم·

يفد الجيران والأصدقاء، وتصبح قطع الشمع الممتلئة بعسلها علكة شهية، فيما يقف هو بقامته المشدودة وسمرته الرائقة محذراً من ابتلاع الشمع، غامزاً بعينه لصديقه وهو يدس في يديه ملعقة صغيرة من غذاء الملكات، فيزهو الآخر حالماً بحيوية تعوض الصحة الضائعة يوم ضاعت راحة البال·

على الطريق الترابي- قبل أن تمهده العربات الثقيلة ويغطيه الإسفلت - يجر العجائز أقدامهم المثقلة بالروماتيزم قاصدين النحّال الطيب، يجلسون أمامه شاكين صليل الركبة، طالبين لدغة أو لدغتين من النحل الذي يشفي من يقظة الآلام في العظام، يذهب ويعود ممسكاً بين أصابعه بنحلتين أو ثلاث، ويلدغ بها الركب المتعبة، ويرجع الحالمون بنوم هادئ مسكونين بوهم الشفاء المؤقت حاملين علب العسل المهداة·

لم يكن النحّال الطيب تاجراً مراوغاً، لم يعرف يوماً كيف يغش العسل بالماء والسكر، وكيف يزايد في السعر حين تجف المناحل ويبقى عسله نقياً، وحين عرض عليه العمل في بلد بعيد وافق مرغماً وهو يرى أبناءه يكبرون في ظله فتكثر أحلامهم وتضيق ذات اليد، لم تكن الأرض والمناحل تكفي الحاجة وهو الذي آثر دائماً ألا يرى في عيون أولاده انكسار الحلم والرغبة، كان عزيز النفس، أنيقاً في جلبابه، وشاربه المتميز كصقر جبلي يفرد جناحيه أسفل أنفه·

يوم سافر، تحدث الناس عن سفره، روى القرويون في لياليهم الظامئة إلى جديد الحكايات، كيف يسافر شجر الجميز العتيق بعيداً، وكيف يترك النحال الطيب أهله وسيرته الجميلة ليطارد حلم أبنائه·

 لكنه- يوم سافر- لم يقل شيئاً، كان صامتاً كشجر الصفصاف، ودع زوجته وأم أولاده، ونهرها بنظرة حين بكت، وأطل على المنحل خلف البيت وأوصى ابنه الأوسط به، لكن عاماً واحداً من غيابه حوّل الطنين إلى صمت حين هجر النحل صناديقه الخشبية، كأنما طارت الملكات بجنودها خلف رائحته البعيدة·

عشر سنوات وهو يربي النحل في بلد آخر، يذهب وحين يجيء يقف بشروده الحزين أمام الصناديق الخشبية الفارغة، القبور الشاهدة على مجده القديم، لا تهزه الريح، يقف مشدوداً في حزنه القروي الثقيل، كاتماً دموعه التي لا يعرفها أمثاله من الرجال وفي الليالي التي ينتصف فيها القمر، وتختلط رائحة الشاي بدخان السجائر، يروي بفرح عن أسرار النحل وغرائبه، عن الشغالات والملكات الملونة رؤوسها، عن الذكور الكسالى ومشهد الطيران خلف الأنثى، عن الموت مقابل الحياة لحظة التلقيح والتكاثر، عن عيون الشمع حين تمتلئ عسلاً فتختمها الملكة بفمها العذب، ينصتُ الحضور حتى يأخذهم جلال الحكمة فيهتفون بين اليقظة والنوم: " سبحان الله "

وحين يصمت تصبح عزلته سجناً، يتابع أبناءه وأحفاده باتكاءة العصر أمام البيت دون أن يقول شيئاً، فارقته السجائر يوم فارقه الكلام عن النحل وأسراره، أغلق باب الذكريات حين انفرط عقد الأمنيات المعلقة برجوع النحل إلى صناديقه المخبوءة في الغرفة المظلمة·

يقولون له: دع الأرض والزرع لأبنائك·· واملأ البيوت الخشبية بالشمع والنحل، يهز رأسه ويتحسر على زمن لم تكن فيه على الرزق " ضريبة مبيعات "، ينعى بكلمات أياماً كان فيها العسل صافياً غير مخلوط بالماء والسكر، ويغير جهة الكلام سائلاً سائليه عن الصحة والأحوال·

ذات يوم قال: لا·· وأقسم ألا يسافر، مزق تذكرة العودة، غرس أرضه بالقمح والذرة والقصب، راقب أبناءه والشوارب تنبت تحت أنوفهم، زوّجهم القريبات الطيبات، رمم ما يكاد يسقط من عز البيت والعائلة، أخذ مكانه في صدارة المجلس يحل ويربط ويحكم بين الناس بالعدل قبل أن تحكم بينهم محاضر الشرطة وقاعات المحاكم·

هناك، في قرية صغيرة على هامش الملكوت، ثمة رجل طيب لا تحرق قلبه سوى جمرتين من الحنين: ابنة جميلة استردها الله في غربته يوم كان يغيب، وبيوت خشبية هجرها النحل حين كان في البلد البعيد·


زمن الوجوه القديمة

 

السماح عبد الله....

آهٍ·· أيها الداهية، يا ابن الحكمة والشوارع، كنت تذهب ونبقى، تحكي عن المدن ونسائها ونشقى، تروي عن التي لا تحب البرتقال، عن خديجة المتوجة بالفل والزعفران، تنزل اللغة على لسانك منذ ألف عام، فتكتب كمن يبني قلعة أو حصناً، لا حيلة لأحد في اقتناص متاهة دخلتها في بحور الخليل، تعرفها كما تعرف اسمك المعرف بالألف واللام، آهٍ·· أيها الداهية، يا صعلوك المقاهي، لم يكن ينقصك سوى السؤال عمن قاسموك الوقت·· والمسرة·

ياسر الزيات.....

روحه لا تستقر، وقلبه بيتُ من لا بيت له، تدخله - هكذا- بكلمة، وتخرج منه - هكذا- بكلمة، لم يكن رمادياً ذلك الذي يقتله الحب كما تقتله الخديعة، كنتُ أحسده حين يصطاد قصائده وأقول: كيف أتت إليه الموسيقى طيعة؟ على أي بحرٍٍ يقف؟

وكان يختفي كالساحر، ربما غجري في الهوس بالأماكن، وحين يهدأ، حين يحط رحاله وتكاد تتبع أثر قدميه على الأرض، تطير به من لا تطير بك، تأخذه بنات أفكاره إلى أبعد مما توقعت، ويبقى زيت قنديله مشتعلاً بالنار·· والضوء·

عبد الناصر هلال.....

خرج من بطن جبل بعيد، هو ابن الرمل والمدى المفتوح على مطر وسراب، أخذ سمرته من أول حفنة تراب، تلون بالطمي وروحه عاصفة، وخطاه هجرة إلى المدن، خطاه خطاياه إذا لم تكن تعويذته رائحة الأب والأم والأخ الشهيد، كان في زمن النداوة يكتب كطوفان عميق، بئره لا تجف فيما يداه تغرفان بلا هوادة، هو الساقي الظامئ، جرى خلف نداهة لغة من الرمل والحصى والطين وقال: اتبعوني، وحده مضى إلى قاعات الدرس، تلاميذه من غبار، وعيناه معلقتان بشارع المخبز القديم·

عبد الحكم العلامي.....

لم يقل لي أحد شيئاً عن ملامحه، لكنني مازلت أظن أنه سرق وجهه من جدار فرعوني، وربما من وجوه أقدم بكثير، له عينان مليئتان بالطفولة، وقامته القصيرة كحائط بيت صغير أسـفل الجبل، هو ذاتـه الجبل الذي خـرج من بطنه صـديقه   ( الهلالي) لكنهما صديقان نقيضان، ( العلامي) لم يغادر طفولته، لم تغادره طيبة القرى، يبكي مثل ميت وحيد حين يسترد الله ودائعه، حين يرحل أخوة الأحلام والسنوات المغطاة - الآن- بالتراب·

كم سنة وبيننا هذه المسافات؟

كم سنة وأنا أود أن أسأله ولا أستطيع: من أي جدار قديم أخذتَ وجهكَ الشاعري ؟

 

 

اعتذار عن ذنوب منسية

 

يا إخوتي، يا أبناء أبي وأمي، أيها الطيبون كما شجر الصفصاف، المعلقة قلوبهم وأبصارهم بالذي شرد وغاب، بالذي أخذ من جيب وقلب أبيهم أكثر مما أخذوا، بالذي ترك في عيني أمهم حنيناً لا ينام، بالذي وضع الريح والقلق على مقبض الباب العتيق، بالذي ينادونه في الفرح والحزن" أخي "، ويناديهم في الغياب " إخوتي "،  لكنه لا يعرف كيف يعيده الطريق؟ كيف يطفئ جنون الرحيل في دمه؟ وكيف يطرق الباب عليهم فجراً دون أن يسألوا في صمت وحريق:

- هل الذي عاد أخونا القديم أَمْ عابر سبيل ؟

أيها الأصدقاء القدامى، يا شركاء لعب الطفولة وشقاوة الشوارع والقطارات، ومقاعد المدارس الضيقة، يا صحبة العناد والخصام على الطباشير الملونة والكراسات المسطرة، والأقلام المسكونة بالحبر الأسود والأحمر، يا رفاق الإجازات والأعياد ولعب الكرة في الحقول بعد الحصاد، يا من أذكر أسماءهم الأولى، يا كل من يذكرون اسمي وأجهل ملامحهم البعيدة·

يا رفقاء سنوات السؤال والتشكك، يا أغنياء الأحلام فيما كانت تفرغ الجيوب ويمتلئ العقل والذاكرة، يا هؤلاء·· يا ساكني الحجرات والشقق الخالية إلا من سرير وتلال الأوراق والأمنيات، يا من تعبت أقدامهم من قطع المسافات الطويلة ساعة تبخل اليد على ركوب السيارات والباصات ولا تبخل أمام أفيشات فيلم وعنوان كتاب، يا من كنتم تستندون إلى الأمل المراوغ، تثرثرون على المقاهي الفقيرة عن قصيدة أو رواية أو خيانة صديق لصديق، يا رفقائي في أول الطريق···

أيها المارة في المدينة الكبيرة، أيها الباعة النائمون من تعب على عرباتهم الخشبية المتهالكة، يا ماسحي الأحذية، يا بائعي الجرائد في تقاطعات الشوارع والنواصي، يا صبي المقهى الفقير الملوّن ثوبه بالقهوة والعصائر، يا سائقي عربات التاكسي لحظة يضيق الصدر بالبطء والزحام، أنتم يا جنود الحراسة الواقفين أمام الصناديق الخشبية زائغي العيون، تطاردون رائحة البيت والأهل، يا كل من رأيتهم ومددت الخطى أمامهم·· وبجوارهم ولم ألق عليهم السلام·

أيتها النساء اللاتي عبرن القلب والذاكرة، يا من مددن طرف الكلام وقطعته، يا من طرحن الأسئلة ولم أجب عنها، يا من تجاهلت عطرهن لحظة ملأ العطر المكان، يا من مررت عليهن دون أن تطرف العين مأخوذاً بالهيئة والحضور، أيتها الشاكيات في كبرياء وصمت من سذاجة القروي، من بئر أسراره العميقة، من جبال الهم في عينيه، يا عابرات الروح دون أثر، يا حاملات العتاب الذي لم أسمعه، يا شاكيات إلى البحر من رجلٍ غامضٍ تقيده الأرض بالغياب والسؤال، أنتن أيتها الوردات اليابسات في قلبي·

أيها القرويون الحزانى، يا أبناء الأرض والتعب والانتظار، أيها الجالسون القرفصاء على التراب في مداخل الدروب الصغيرة، يا ساكني بيوت الطين، أيها العابرون على ظهور الدواب ساعة الظهيرة، يا هؤلاء المتعبون بابتساماتهم القليلة، أيها الموجوعون بالفقر والمرض، يا كل من مررت عليهم صامتاً كالجدار، يا من تساءلوا عن حامل الحقيبة والجريدة فلم أستدر للسلام أو الكلام·

يا هؤلاء

وأولئك

يا كل من تركت في قلوبهم مرارة وسؤالاً·· يليق بي الآن الاعتذار·

 

 


غراب المراثي

 

- آه·· يا عزيز عيني

بعد حين عرفنا من تقصد، لم نكن في حاجة لنسألها عن عزيز عينها الذي تبكيه منذ خمسين عاماً، كان ترتيبه الثاني بين أبنـائها، اختــار لـه أبوه اسـم " جلال "، خائفة عليه من الحسد تحصنه كل صباح بما تيسر لها حفظه من القرآن، تحذره - حين شب واشتد عوده- من المرور أمام بيت امرأة عجوز عيناها تفلقان الحجر:

- خُد بالك يا ضناي·· خُد بالك·

لكنها لم تنعم بالولد الأبيض الشقي طويلاً، ذات مساء انتفض جسده الصغير بالحمى، كان يبكي وهو غارق في عرقه، تارة يشكو من حرارة تكاد تحرقه كعود شجرة يابس، وتارة يرتجف فتتكوم فوقه الأغطية دون جدوى، وهي كأنما أصابها مس من الجنون:

- رقيتك واسترقيتك من كل عين شافتك ولا صلت على النبي·

  وحين شقت ثوبها الأسود الطويل وأهالت التراب على وجهها، انطلق الأب مهرولاً في اتجاه الطبيب الذي لم يجد حيلة سوى النصيحة بالصبر وبالكمادات الباردة وبضع حبوب بيضاء، ثلاث ليال ما بين النوم واليقظة تجلس مخطوفة بجوار سرير الصغير، تمسح عرقه، وتقنعه بالعصائر الفاترة، لكنه كان يذبل بين يديها، وفي آخر ليلة دوتْ صرختها فأيقظتْ قرية بأكملها، انتزع الأب جسد الطفل منها بصعوبة، ولم تقنع بالتهديد والعقاب فذهبتْ وراءه حتى مقبرة العائلة، وهناك أقامتْ على بابها أياماً حتى أعادوها، فلم يشفع لها زوجها ما فعلته وألقى عليها يمين الطلاق·

- كَسّرتْ كلامي وخَرَجَتْ عن طوعي· 

ويحاوره أهل الخير·

- اتقِ الله ولا تظلمها·· الفراق صعب والضنى غالي·

- حكايتها صارت على كل لسان·

ومن يومها لم تعد إلى البيت، استقرتْ في غرفة صغيرة ضيقة في بيت زوج ابنتها الكبرى، انطفأ نور عينيها من البكاء والحسرة، كل مساء تصدح بالمراثي وتضمر في عزلتها، من أين حفظت هذا ( العديد) الحزين؟ عدودة بعد أخرى، خيط طويل لا ينتهي من الحزن ،  تبدأ نحيبها على صغيرها الذي غاب، يأخذها الإيقاع الجنائزي "  للعدودة "  من حال على حال، من جرح قريب إلى فقد قاس ، تبكي أحوالها، فقدها الابن والزوج:

( يا عمود بيتي والعمود هدوه

يا هل ترى في بيت مين نصبوه؟

يا عمود بيتي والعمود رخام

يا هل ترى في بيت مين اتقام؟ )

وفي الأعياد، في الصباحات المسكونة بالفرح وتقاطر الأطفال في اتجاه طرقات اللعب وأبواب الأهل والجيران، تجر قدميها إلى المقبرة البعيدة، تعرف طريقها مستندة على الجدران، هناك تراها جالسة في ثوبها الأسود الذي لا يفارقها، تخط على التراب بعود صغير مدبب التقطته من سقف غرفتها وتنوح كغراب:

يا عيد عَيّدْ على الجيران وامشي

إحنا الحزانى ولا نعيدشي

يا عيد عَيّدْ على الجيران وروح

إحنا الحزانى وقلبنا مجروح

هكذا، تمضي بها السنوات، غارقة في البكاء، انكسر ظهرها يوم سقط جدار الغرفة فوقها لكنها لم تمتْ، اقتربتْ من التسعين عاماً ولم يبق فيها شيء كما هو إلا صوتها يعلو على أصوات المنتحبات في البكاء على من مات من الأهل، كأنما تنوح على حالها وتستعيد في قلبها ما فقدته، فتوغل في الصياح ويأتي صوتها حاداً ومفزعاً كصفير قطار، تمشي بانحناءة وتقوس ظهرها حتى يكاد وجهها أن يلامس ركبتيها، تقلب عينيها أمامك دون أن تحدد مكانك إذا لزمت الصمت، وعليك إذا سألتها عن الأحوال والصحة أن تحدثها بصوت أوبرالي يهز الغرفة لكنه لا يصلها إلا خافتاً مشوشاً، وحين لا ترد، حين تصمت أمام سؤالك تتركها وفي قلبك تنام الشفقة عليها كجبل عظيم، لكنك لا تكاد تبرح بابها حتى تسمعها تطلق تنهيدتها المشبعة بالموت:

- آه·· يا عزيز عيني·

 

 

 

مزدحم كقطار سائقه أعمى

 

حدثني صديقي فقال: كنت في العاشرة من عمري حين كانت الكوابيس جاهزة على أطراف سريري، والضوء الخافت من لمبة الجاز كفيل بأن يلقي الرعب في قلبي عبر ظلال مهتزة على الجدران بفعل تيار الهواء القادم من أسفل الباب، والآن ها أنتم ترونني أهذي، أحدثكم عن أشياء لا ترونها، ولا أخفيكم سراً أنني مزدحم كقطار سائقه أعمى·

  حدثني صديقي فقال: السيدة الملتفة بالوقت ضربت عامل النظافة بلا رحمة، كان السيد الواقف في شرفة بيته يتثاءب لأن زوجته تكنس البيت في ساعة نومه، والصبي الذي دهسته سيارة بيضاء ضخمة مات بسرعة ولم يبكه أحد، لأن أحداً لم يكن لديه ما يكفي من الوقت ليتأسف، والذي أدار وجهه مع صوت الارتطام لعن الصبي مرتين بسبب ما سماه سوء الحظ، أما التي أخبرت أمها بسر قلبها فلم تحسب حسابها جيداً حين تلقت صفعة على خدها الأيسر، ولأن سائق القطار كان يحفظ طعامه في كيس قديم، تردد ولم يدعُ زميله إلى طعامه القليل، وفي اللحظة التي صمت فيها المؤذن كان العجوز يتحسر على عجزه الذي أقعده عن تلبية النداء، وفي المدينة المحاط بعضها بمجرى عيون كنا نروي الظمأ بالمياه المعدنية متحسرين على مياه " السبيل" أمام البيوت الفقيرة، وفي السادسة والنصف من يوم بعيد زغردت واحدة من اللاتي يغسلن حناجرهن بالنميمة، وهي عادة ما تحزن وتفرح للآخرين بدرجة لا يصدقها إلا أولئك الذين لا يعرفونها، ويقول من أجهل اسمه بسبب ما أنا فيه من هذيان: " عندما يأتي الوقت الذي نعرف فيه كيف نعيش حياتنا يكون العمر قد مضى"، أما صاحبنا الذي مات وهو يضحك فلا يجوز لنا نسيانه لسبب بسيط أنه لم يكن قبلها يضحك أبداً، وفي مساء معتم شديد الحرارة زحفت عقرب صغيرة على فراش طفل ولدغته في رأسه، تحسسها وبكى فأسكته والده بالحلوى مدعياً أنها إبرة ملقاة بإهمال على سريره، وعندما حمله إلى الطبيب بكى الطفل ثانية لحظة حقنه بمصل العقارب، وطالما أن السفر لا يجدي، سأل الأب ابنه: لماذا تنفق عمرك بعيداً، ولم يكن يعلم أن ابنه إن عاد فسوف ينفق عمره قريباً منه وبلا جدوى أيضاً، كان مدرس الحساب يكرهه لأنه لم يحدث مرة أن أجاب عن سؤال إجابة كاملة، وحين يغتاظ رافعاً عصاه وصارخاً في وجهه، يكره الطفل اليوم الذي جاء فيه إلى هذه المدرسة بالذات، وكثيراً ما تمنى أن يذهب صباحاً فيجد مدرسه قد مات، لكنه لم يمت إلا بعد أن علمه كيف يحب الحساب، ولعل صديقنا الذي مات شقيقه في حادث سيارة ولم يبك لحظتها، لم يكن قاسي القلب كما اعتقدنا، كان حزيناً أكثر مما تصورنا إذ بكى بعد شهر بكاءً حارقاً فشعرنا أمام ظنوننا بالخجل، ولما كانت السنة الثانية عشرة وكان صاحبنا يصطاد جالسا فأخذه الحماس فشد صنارته بقوة من ظن أن سمكة كبيرة معلقة في طرفها، فإذا بها خاوية وإذا بالخيط يلتف على يده والطرف الحاد يخترق كفه فيعود إلى البيت والدم دليل مصيبته التي تركت في يده ندبة ربما يفلت منها المال كما يفلت الماء من بين الأصابع، ولأنه عادة ليس كأولئك الذين يضعون رؤوسهم على الوسادات فينامون في غمضة عين، فإنه يشعر كأن خيولاً مجنحة تركض في رأسه فيتقلب ذات اليمين وذات اليسار حتى يسقط في النوم مرهقاً من تتبع أشباحه وأشباهه وأقرانه الذين أخذتهم الطرقات أبعد من عينيه، وكلما قال الآخرون قولاً عن المحبة ركن إلى الصمت لأنه لا يجد لغة كافية تطفئ حرائق وجده، وغالباً ما يسكنه الضجر من الذي يتكرر صباحاً ومساء، غالباً ما يأنس إلى الليل فيمضي فيه باحثاً عن ما ضاع من روحه، متتبعاً الخطى والعطر والكلمات، هارباً من الأمكنة إلى الحجرات المغلقة على الأغنية والخيبة، وحدث ذات مرة أن خاطب الجدار وأعطاه اسم صديق، وخاطب النخيل واستراح لسعفة تميل على الأرض، وخاطب البحر كشاهد على خسارته، وهكذا لا يستقر على حال، يهذي بلا نهاية، ويداه ممدودتان على الطريق، أعمى ينتظر، خائفاً أن يلقى حتفه بين الحنين والهذيان

 

 

 

شياطين اللثة

 

على قدر ما بيننا من الكراهية توطدت علاقتنا في مساءات الغربة، وصار حضورها في تمام الثانية بعد منتصف الليل موعداً للألم الخرافي الذي يبدأ صغيراً متفرقاً أسفل عظمة الفك الأيسر، ثم تتجمع قوى الألم في إيقاع منظم يجعل الرأس ساحة لحرب من طرف واحد، إذ تفشل كل محاولاتي في إخماد صوت المدافع والقنابل المتفجرة هناك في عمق اللثة البعيد·

هكذا تستيقظ شياطين عصب الأسنان في موعدها حين أهم بقراءة كتاب أو تسجيل خاطرة مارقة أوحت لي بها الأضواء الخافتة خلف الزجاج، أو حين أقرر مشاهدة فيلم قديم ادخرته لاستعادة ذكرى باهتة·

ليالٍ طويلة وهي تجيء دون إذن مسبق، تدخل عفاريت الأسنان من بوابة صنعتها عبر مخاوفي من عيادات أطباء الأسنان، ومن الاستلقاء على             ( الشيزلونج ) المتحرك الذي يعلق عيني في سقف غرفة باردة وفمي مفتوح أمام أشكال دقيقة من آلات الحفر التي تبحث عن ضالتها في جدار ضرس متهالك·

في كل مرة أقرر أن أذهب للطبيب أتراجع وأستريح للتأجيل حاملاً في جيب قميصي أقراص المسكنات، لكنني فجأة وجدتني في ليلة قريبة عاجزاً عن احتمال يقظة الشياطين، كانت الزيارة غريبة إذ لم يبدأ الألم تدريجياً كعادته، انفجر مرة واحدة، كأنما حريق ملتهب اشتعل في دمي، قاومت الدخول في حرب المسكنات لدقائق، فامتدت الحرائق إلى أعلى الرأس، وبدا أن كل شيء صار مستحيلاً·· لا وقت لأية رغبة·· ولا إغراء ممكنا لرائحة القهوة والسجائر·

سقط الاتفاق الممكن والمحتمل في علاقتنا، وخرجت شياطين العصب عن حدود صداقتنا القديمة، وجاءتني هذه المرة بما لا طاقة لي على احتماله، كنت في هذياني تحت وطأة الألم أتحسر على خسارتي الفادحة لصداقة دامت شهوراً، فإذا بي اليوم اكتشف حماقتي: كيف أثق في عدوٍ يسلبني حرية النوم·· والتدخين·· والاستمتاع بالقهوة الساخنة التي بردت على طرف المكتب؟

في الثامنة صباحاً كانت دفاعاتي وحصوني قد انهارت، وراياتي البيضاء ترفرف عالياً فوق هزائمي، والعلب الملونة لأقراص المسكنات والمهدئات احتلت المكتب والسرير، ونقمتي بلا حدود على فرشاة الأسنان والمعجون المستورد الذي لم يقدم لي سوى تلك الرائحة المنعشة التي لا تساوي الآن شيئاً·

هدني السهر فابتلعت قرصين من المهدئات بحثت فيهما عن ساعة نومٍ واحدة استيقظت بعدها على الهاتف مستغيثاً بالطبيب·

ذهبت إليه راغباً لأول مرة في الاستلقاء على ( الشيزلونج )عارضاً عليه أن يخلصني من هذه الفكرة المجنونة التي هيأت لي صداقة معذبة بيني وبين شياطين العصب، بعد قليل علّق الطبيب عينيه بالضوء الساقط على وجهي، وقال بنبرة حاسمة: لا حيلة لنا اليوم·· عليك أن تضحي بأصدقائك·

أومأتُ له موافقاً، وحين بدأت حقنة المخدر تتسلل إلى دمي كانت نبضات الألم تتراجع بينما تصحو حواسي ثانية على رائحة القهوة والتبغ التي تجيء من بعيد فأحن إليها حنين عاشق افتقدهما ليلة واحدة·· طويلة·

في الليلة التالية كنت أنعم بالصمت والحذر اللذين تخلفهما الحروب عادة، وأنا أراقب في توتر حركة عقرب الساعة - وهو يتحرك ببطء باتجاه الثانية صباحاً، كنت أخشى يقظة الألم ثانية رغم الحفرة الصغيرة التي فصلت بين أسناني شاهدة على غياب إحداها

نام عقرب الساعة على الثانية صباحاً·· ولم تنفجر رأسي ثانية، أيقنت لحظتها أن هدنة من السلام حلت أخيراً·· وفي انتظار إعلان حالة حرب جديدة هيأت نفسي لسهرة طويلة·· أجمل ما في تخيلها الاطمئنان إلى ما بعدها من استدعاء النوم·

  

 

  

أبوالعباس.. أبو الرجال

 

هو أول من جاء بالتليفزيون الملون إلى قريته الصغيرة النائمة في الغبار والسكون، ذات يوم بعيد اخترقت السيارة البيجو البيضاء الطريق الترابي حتى توقفت أمام البيت الطيني القديم المطلّ على مجرى المياه الصغير الراكد بفعل الحشائش التي أوقفت حركة الماء والنفايات، نزل " أبو العباس " من السيارة ليحتضن أطفاله الذين كبروا قليلاً في غيبته، كان شاباً مفتولاً مثل حبال جيدة الصنع، ملامحه الفرعونية منحوتة وبارزة على سطح وجهه الطويل، وشاربه يرتفع من ناحيتيه كفرعي شجرة صفصاف خضراء على مدخل حقل أليف·

كان يذهب ويعود إلى ليبيا يوم كان السفر إليها فاتحة للمال وفرحاً للبنين حين يلتفون حول الغائب القادم بالملابس والهدايا الغريبة الغارقة في العطور الرخيصة المعلبة في زجاجات ملونة، تغري أولئك الذين لم يتعطروا سوى بالبخور وعطور ثقيلة سوداء تبيعها السيدة العجوز وتقايض الراغبين فيها بالقمح والشعير والذرة·

وقفت السيارة البيضاء فهدأت خلفها سحابة الغبار، وطلّت الرؤوس من فتحات النوافذ الطينية في البيوت المجاورة تحسد أهله على ما حملته السيارة من حقائب ولفافات ضخمة حاصرتها الأعين بالرغبات والأسئلة والتخمينات، فيما تمنى الأقربون أن ينالهم حظ الهدايا بقطع قماش من الصوف، أو جلباب رمادي يتباهى به الابن أو الأب في سهرات العائلة·

أنزل ( أبو العباس ) ومستقبلوه حقائبه من فوق سطح السيارة، تمهل قليلاً في إنزال التليفزيون الضخم ربما ليظل لثوانٍ كرأس جبل فوق السيارة، " كام بوصة؟"  تساءل الأطفال والكبار وهم يراقبون الكرتونة الضخمة، وحين تبارى ثلاثة رجال في حمل التليفزيون إلى البيت، تناقل الصبية خبر تليفزيون " أبو العباس"  الملون الذي يقترب حجمه من السينما، لم تكن القرية حتى ذلك الوقت تعرف غير الأبيض والأسود، ويوماً بعد يوم تحـول بــــيت ( أبـو العباس) إلى مزار للصغار والكبار، وتحدثت  القرويات بخجل وحياء شديدين عن نساءٍ من كوكب آخر يظهرن على الشاشة أنصاف عاريات وملونات الثياب والخدود والشفاه، وحين تغلبهن الغيرة والحسد يلعن التليفزيون الملون الذي جرجر الأزواج إلى السهر حتى نهاية الإرسال، ثم يعودون بالنقمة إلى بيوتهم وزوجاتهم المتعبات من الأولاد وشؤون البيت التي لا تنتهي·

سافر ( أبو العباس ) وعاد كثيراً، وحين كبر ابنه البكر ونبت شاربه أسفل أنفه أرسله إلى بلاد الغربة بدلاً عنه، وقنع هو بفلاحة الأرض وتجارة المواشي ومشاركة الرجال في السهر وسرد الحكايات تحت أضواء المصابيح الخافتة، وأضاف بقاؤه سطوة لعائلته ومهابة، وهو العصبي المقدام الذي يصد عن أهله وذويه كيد المتربصين والراغبين في العراك، وحين تقع المعارك الصغيرة والكبيرة يحمل نبوته المقطوع من خشب الصنوبر، ويضرب في الرؤوس والأكتاف فيهرب أمامه الرجال حتى لا تقع " الفأس في الرأس" وتجري الدماء، تاريخاً من الثأر·

ثلاث زوجات في بيت واحد، من يفعلها سوى أبو العباس"، حكم قبضته عليهن فصرن أليفات في ظله، مطيعات لا يرفعن صوتاً بالغيرة أو الضيق، ينجبن الأبناء فيتحابون كأبناء أم واحدة، وإذا حدث وفقدت إحداهن عقلها وصدرت عنها إشارة لغضب أو تذمر، خرجت إلى بيت أبيها لتبقى فيه زمناً، ولا تعود إلا حين يتذكر هو بعد شهر أو اثنين أن يرجعها إلى داره·

الآن·· تعب ( أبو الرجال )، تعب كبده في السفر وراء الرزق وشد الحزام في زمن التضخم والعولمة، ذبل عوده وغارت عيناه من المرض، والتف حوله أبناؤه وأصدقاء شبابه وفتوته، يزورونه ثم يمضون لحال سبيلهم، وفي قلوبهم مرارة الوقت الذي قادهم إلى مشهد لم يكن في الحسبان، وفي عيونهم سؤال الأسى: كيف تغلب المرض- أو كاد - على ( أبو الرجال )·

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

ذنوب صغيرة

 

يا أباه···

هل تذكر طفولته يوم كنت تجهز جلبابك الأنيق وتلف الرباط الزهري على رأسك وتضع قليلاً من عطر كثيف ثم تمضي في صباحاتك إلى ( البندر)، زائراً أصدقاءك وجالساً في المقهى الأثير، هل تذكر بكاءه لحظة يرف جلبابك ويفوح عطرك وأنت تغلق الباب ماضياً وتاركاً في قلبه الصغير أمنية الذهاب معك مؤجلة إلى حين، فيبقى مطارداً بحلم ركوب السيارات القديمة التي تزمجر في البدء كقطار مسكون بالعفاريت؟ هل تذكر ساعة عودتك محملاً بالفاكهة التي يحب فيقطع الطريق الترابي إليك فرحاً كأنما لم يكن باكياً في الصباح؟ هل تذكر لياليَ كان يكسر فيها عادات النوم مبكراً حاضراً مجالس الكبار في مقهى القرية معلقة عيناه بالشاشة الصغيرة وبالدراما التي تشبه حكايات الجدات: " الدوامة " ··· " الساقية " ··· و" هارب من الأيام " ؟

هل تذكر حين عدت إلى البيت في منتصف الليل فلم تجد صغيرك في فراشه فلم تسأل الأم كاتمة الأسرار، وقصدت المقهى لتجده ثالث اثنين مأخوذاً بـ " سيدة القطار"، كاتماً أنفاسه وعاقداً يديه حول صدره، مائلاً قليلاً في اتجاه شاشة التلفاز الصغير، يكاد يدخلها ليدفع الأذى عن البطلة الباكية في منتصف الرواية· لم تقل شيئاً، لم تلق السلام على الساهرين معه، شددته من يده وهو يرتجف خوفاً وبرداً كطائر مبتل في الحقول لا يقوى على الفرار، وفي عتمة الطريق الترابي صفعته لأول وآخر مرة، ثم راضيته في الصباح برحـــلة إلى ( البندر)  وحذاء جديد، مضى الزمن به وبك يا أباه الذي في القرى، غير أنه مازال يسأل: كيف رأيت وجهه في الظلام؟ كيف لم تخطئ صفعتك خده؟ وما الذي جرى بعدها لسيدة القطار؟

هل تذكر طفلك الذي كان يذهب وحيداً إلى المحطة النائية مجنوناً بترقب بائــع الجرائـــد المعطوبة عينه، فيتلقف الصبي الجــريدة ويضع في اللحظـة ذاتــها ( قرشين)  في يد البائع المتدلي نصفه من نافذة ضيقة لقطار سريع لا يقف على القرى الصغيرة، خذ وهات في ثوان خاطفة فإذا أخطأ الصغير غايته يكاد ينزلق أسفل العجلات أو يتعلق بخشب النافذة ويبدأ الصراخ، هل تذكر يوم حذرك الناس من سقوطه تحت العجلات، لم تكن تغادر البيت إلا بعد أن ينقضي موعد القطار، فيحترق قلب الصغير باكياً على جريدة اليوم التي فاتته·هل تذكر يا أباه يوم شب الصغير ونبت الشعر في ذقنه وشاربه وجهز حقائبه للسفر البعيد، يوم شد على يديك مودعاً فلمعت في عينيك دموع لم يرها قبل أبداً، فتذكره بالرسائل والعودة كلما استطاع، مضى الزمن به وبك، وكثرت ذنوبه الصغيرة والكبيرة، وبقي يفتش في الصور العائلية عن ماء يروي عطشه إلى طفولة لا تعود·

وحيد هو في عيده، يرتب بعناية ذنوبه الصغيرة، ويعتذر

فمتى ترضى يا أباه الذي في القرى.. ينتظر؟

 

 

هواء الحقائب القديمة

 

الذين رأوها قالوا: بنت موت

وفي اللحظة التي انفرطت محاسنها في أبد الرماد - بفعل رصاصة طائشة - تمنى الذين عرفوها لو أنهم كذبوا

 على وجهها كانت ملائكة تروح وتجيء·

كانت فراشات ملونة صغيرة تلامس عينيها الضيقتين، وتفرُّ إلى حيث لا يعلم أحد، وحدها كانت تعرف إلى أين··

 وحدها كانت تطرح على فراشاتها ما شاءت من أسئلة·

وحدها كانت تنتظر في صمت مهيب اطمئنان الإجابات المستحيلة

وحدها - الآن - تعرف الموت أكثر·

ثمة سؤال كان على وجهها لكنها لم تنطق به·· هل كان عن الحياة والموت؟

لم تفسر لنا ما قرأناه في عينيها من حيرة وشرود، ونظرات مشدودة بخيوط مسحورة· اتشحت ملامحها الدقيقة بحزن نبيل حتى رحلت في عربتها الخرافية·

عربتها الخرافية·· قيل: إن لسائقها حفرة في وجهه وإنه أشار إليها، وخاطبها باسمها حتى ظن البعض أنه يعرفها من قبل·· وقيل: لم يكن للعربة سوى مقعدٍ واحد، وحصان وحيد لهذا لم يستوقف أحداً غيرها، ولم يترك ما يدل عليها سوى رصاصة واحدة في القلب·

كل شيء كان جاهزاً لرحيلها المفاجئ·· أحزانها الصامتة دون سبب ما، خصومة ثأرية بين عائلتين، مقبرة العائلة المغلقة على أسرارها وابتسامتها الناقصة على شفتيها الرقيقتين·

كل شيء كان جاهزاً لأسطورة البارود المشتعل، لتبادل القتل بمهارة القراصنة الأوائل، فيما كان الغضب يتصيد ضحاياه في قرية نائية تنام على صوت شياطينها·

وعندما ارتفعت صرخة إعلان نار الخصومة على باب المسجد الطيني، وضغطت الأصابع على الزناد لحسم معركة الإرث وتقسيمه·· كانت تقف قريبة من الموت تراقب شقيقها الغارق في دمه من ضربة نبوت أتته من الخلف·

راقبت مثل غيرها من النسوة اللاتي وقفن يصرخن، لكن الرصاصة - بذكاء المصادفة - لم تطلب سواها، واختارتها وحدها لمهرجان البكاء·

بعد حين، وبحركات مرتعشة من يديها، أخفت الأم دلائل الحسرة والرحيل، وضعت في خزانة البيت ملابس الراحلة التي لن تعود ودفنت أشياءها في هواء الحقائب القديمة، وظنت أنها سوف تنسى لكن الهجوم المباغت للحنين لا يزال واقفاً على مدخل الروح·

ربما - في المسافة التي قطعتها ما بين القاتل وقلبها - كانت الرصاصة تغني لعروس الرمال·· فهل ارتوت بدمها تماماً؟ هل كان طريقها مستقيماً أم كان مائلاً بزاوية ما؟ بأية لغة تكلمت رصاصتها حين فتحت لها الجميلة الحزينة باباً في صدرها؟

كل مساء حين أضع جسدي على خشب السرير تقودني رائحة الغياب إلى وجهها، إلى نظرتها الحزينة، إلى أصابعها البيضاء الصغيرة، إلى أنفها المرسوم بعناية·

كل مساء أشد حبل الذنب على رقبتي·· لماذا كنت بعيداً حين أخذها ملاك الموت في عربته الخرافية؟ كيف فاتني أن أرى بياض عينيها قبل أن تغلقهما أبداً؟

ما الذي قالته ولم أسمعه لحظة استرد الله وديعته؟

كل مساء تجيء صامتة في أحلام غامضة تشير إلى الفراغ·· لا تنطق·· ولا تتحرك·· فقط تبكي وترفع يدها وتمدها إلى آخرها·· ولا شيء·· لا أحد·

كل مساء أنام على انتظارها·· أتوقع حركة من شفتيها·· أترقب مثل ضابط محترف اسم قاتلها·

 وفي الصباح - كل صباح - أقبض على جمرة صوتها في زمن كانت تهلل فيه لرؤيتي، والآن ينقص شيء، الآن كل شيء باطل وقبض الريح، الآن·· يرسم دخان السجائر وجهها في لوحة فضائية بلا جدار، وصوت المطرب الحزين يغني لوداع ثقيل وخسارة بلا تأويل

الذين قالوا: بنت موت

بكوا أربعين ليلة لأن نبوءتهم تحققت

هكذا رحلت بوضوء جُمعتها الأخيرة·· تركت لنا تاريخ غيابها الأبدي·· تركت ابتسامتها في صورة عائلية لأجل وجبة يومية من العذاب·· والذكرى·

 

 


ما قالته العجوز

 

كان القطار يزعق كقتيل ظامئ وهو يأكل المسافات هابطاً من الشمال إلى الجنوب، والشمس مختنقة بلا ذنب، قلت لها: القهوة بردت، فقلبت فنجاني وقرأت، والجالسون في المقعد المقابل تساءلوا عما رأته العجوز لحظة ألقت بعينيها في قاع الفنجان·· وبكت

قالت: اذهب بعيداً

 قلت: ذهبت أبعد مما أتوقع

قالت: اذهب بعيداً

قلت: تركت ما أحب إلى ما أحببت

قالت: اذهب بعيداً

قلت: هربت من مدينة ضقت بها إلى مدينة تضيق بي

قالت: اذهب بعيداً

قلت: أتعثر في خطاي، رأسي ثقيل وعلى أطراف سريري يزدحم الموتى والغائبون، ألعنهم خائفاً من محبتهم

قالت: اذهب بعيداً

قلت: الأسئلة قيامتي، في كل ليل سؤال لا تنام بعده الروح، في كل صباح سؤال لا تستقر بعده الروح، خائف على من أحب، خائف ممن أحب، أتخفف وأطير حراً، أقع من خفتي في وحشتي، أحمل أثقالي طامعاً في الألفة، فأضيق بما حملت

قالت: اذهب بعيداً

قلت: الكتابة جنازتي

قالت: اذهب بعيداً

قلت: التأويل قبري أدخله مثقلاً، أترنح على حبل فوق المعرفة والجهل، أخمن، أظن، أتوقع، أرمز، وأشير دون فائدة، البدايات تعب والنهايات قدر، والخيط الذي أتبع لا يصل الطمأنينة

قالت: اذهب بعيداً

قلت: أعرف شروري وأحبها، أعرف شروري وأهرب منها، أعرف ظلمتي ولا أقف فيها، أتطهر من الطين في دمي، وأصعد خلف المثال فلا ألمس حدوده

قالت: اذهب بعيداً

قلت: أقول كما كان يقولون أمام المحكمة المقدسة حين يجيئهم ملتهم الموتى: " انظروا لقد جئت إليكم، طالباً العدل، رافضاً الظلم

إنني لم أسئ إلى أحد

لم أفقر أحداً

لم أجرم في مكان العدالة

لم أخالف أوامر الإله، لم أطمع في مال اليتيم، لم أتسبب في ألم وجوع، لم أجعل أحداً يذرف الدموع، لم أقتل، لم أحرض على القتل، لم أتسبب لأحد في أسى"

قالت: اذهب بعيداً

قلت: أقول كما تقول التعويذة:

" سكاكينهم لن تمزقني

إلى مذابحهم لن أذهب

سوف أتجنب فخاخهم

لن يعدوا لي شيئاً تكرهه الآلهة "

قالت: الآن تعرف وجهتك

قلت: الآن سأذهب بعيداً···

سأتخفف من جسد الأرض

سأكون كما أرادت العجوز التي قرأت فنجاني في القطار، سألتني عن الريح التي تعبر دمي، عن المدن المتحجرة كتذكارات قديمة في عينيي، وعن الجراح التي لا تشفى أبداً، تلك التي أبقيها نازفة من أجل الموت والكتابة·

الآن سأذهب بعيداً خلف إشارات العجوز الغامضة

 لأجد حائطاً تستند إليه الروح·· ولا يميل

 

 


ضوء بعيد موزع بعناية

 

هادئاً، خطواته على الطريق الترابي لا تترك خلفه سحابة غبار..

طيباً، لا يعرف القسوة ولا تكتسي ملامح وجهه إلا بابتسامة ووقار، حين يرقبه الصبية قادماً من بعيد، من طرف القرية النائي قاصداً المسجد الطيني لخطبة وصلاة الجمعة، يفسحون له الطريق محملقين في جلبابه وعمامته فيبتسم لطفولتهم ملقياً عليهم سلاماً طيباً فيتحمسون في الرد حتى يصرخ بعضهم بصوت كالصفير " السلام ورحمة الله وبركاته " طامعين في الرضا وفرحين بالرد على الشيخ الإمام·

في رمضان يصبح إفطاره وسحوره اليومي موزعاً على بيوت العائلة، وما بينهما من الوقت ينقضي في مجلس العائلة ما بين الوعظ وقراءة القرآن وأكواب الشاي التي تدور رحاها بلا ملل، يجهز له الناس مقعده والميكروفون الممدودة أسلاكه حتى أطراف بطارية متهالكة يرجها صاحبها حين تخور قواها حتى لا يفقد سمعته وأجرته آخر الليل، يهمهم الشيخ بالأدعية والأحاديث ويمد يده إلى جيب خلف قفطانه الأزهري ليخرج كتاباً باهت اللون ويقرأ خطبته المسائية عن فضل صيام رمضان، وبعد أيام تتداخل التواريخ والمواعظ ويتجاوز المناسبة حسب ما تقع عليه عيناه في الكتاب من فضل صيام رمضان، إلى الإسراء والمعراج، إلى فريضة الحج، نهاية بعذاب القبر

كان لصوته أثر لا يذهب إلا حين تدخل الأجساد والأرواح في النوم، تتبعه العيون حين يميل يساراً ويميناً وتتهدج نبراته بالبكاء، فيهتز الجالسون تأثراً: " الله ينوّر عليــك يا شيخ"·· " بارك الله فيك"·· " اللهم تقبل "، أما الذي يحرس بطاريته المهترئة فلا يكف عن مراقبة أسلاكها خائفاً أن ينقطع الصوت فيصب المندمجون لعناتهم عليه وحده

لم يكن ثمة كهرباء ومصابيح معلقة في السقف، كان الضوء موزعاً بعناية عبر توزيع لمبات الجاز والكلوبات التي تأكل الفراشات بنهم، فيما كان السقا العجوز يدور بصواني الماء والشاي رافعاً جلبابه حتى ركبتيه بحزام حول خصره، حزام جلدي مهترئ ربما وجده ذات يوم ملقى أمام بيت أو مدرسة·

لم يكن الصبي الذي تجاوز العاشرة غائباً عن ليالي الشيخ الإمام، كان يذهب خلف أبيه ممسكاً بعصا صغيرة، وداساً في جيبه ورقة كتب عليها قصيدة " نهج البردة" نقلها من كتاب النصوص راغباً في فرصة تأتيه ذات ليلة أمام الميكروفون، هامساً لأمه وأخوته أن ينصتوا لصوته حين يخترق صمت القرية، يجلس الصغير في مجلس الكبار مبهوراً بالإمام وصوته، وكتابه الذي اهترأ غلافه وذهب لونه، يتنقل من مكان إلى آخر طامعاً في الاقتراب من مقعده، وحين يلاصقه تقع عليه العيون فيرتبك في جلبابه الواسع ويعقد يديه ملتمساً الطمأنينة، ها هو بجواره، ها هو يرقبه لحظة يقرّب فمه إلى طرف الميكروفون، حين يضع يديه على أذنيه مجوداً آيات ربه، ولحظة ينقضي الليل وينفض المجلس ويذهب الشيخ إلى سحوره، يضيق صدر الفتى بما لم يتحقق ويعود منكسراً إلى سريره مردداً " نهج البردة" في وحدته واثقاً أنه قادر على ترك الأثر ذاته الذي يتركه الشيخ الإمام في السامعين.

ينتصف رمضان والفتى غارق في حلمه

ينتصف رمضان والفتى يختلس دقائق خاطفة ليسأل الشيخ في استراحته عن كتابه ومواعظه، فيربت على كتفه سائلاً إياه عن اسمه ومدرسته·

ينتصف رمضان ويجرؤ الفتى على مصارحة الشيخ برغبته، كان الميكروفون هاجسه وساحره، ذلك الذي يكبر الصوت ويضخمه، هذه البطارية المهترئة التي تفعل المستحيل·· ما الذي يسكن داخلها؟ وفي ليلة لم يقل فيها لأمه وأخوته : " انتظروا صوتي"  منحه الإمام فرصته وحرك الميكروفون ناحيته  ، فتصبب الفتى عرقاً وأخرج ورقته المطوية من جيبه، وألقى القصيدة بصوت مرتجف، كسر الوزن والقافية، وابتلع نصف الكلام في جوفه، كان يشعر بالآخرين وهم يحملقون فيه، خرجوا من النعاس الذي كان يدغدغ حواسهم ليستمعوا إلى الفتى الصغير الذي لم يتجاوز ارتباكه إلا حين تجاهل وجودهم، كان يخفض صوته تارة ويعلو به تارة أخرى، يعيد بيتاً مؤثراً، ويضغط على قافية السطور، وحين انتهى بدأت رعشة خجله وهو يرقب في عيني والده زهوه بالابن الجريء··

طرق باب البيت راقصاً من الفرح، فتحت أمه وهي تقاوم نعاسها، سألها عن رأيها، عن صوته الذي غطى سماء القرية الصغير، ارتجف وهو يحكي لها، لكنه لم ينم من الغيظ ليلتها لأنها لم تسمعه وهي التي بقيت ليالي طوالاً تترقب حلمه الصغير.

 


وجوه لا تأتي في النوم

 

 

يمكن لي أن أتحايل على ضوء النهار إذا أردت أن أصنع ليلاً مظلماً في الواحدة ظهراً، سأحتاج فقط إلى ستائر مُبطّنة، وزجاج يعزل الصوت، وسرير دافئ، وربما أتطرف قليلاً فأضبط مؤشر الراديو على موسيقى هادئة، وبعدها سيكون في مقدوري أن أفعل شيئاً بسيطاً وممكناً: أغمض عيني وأنام·

لكنني لا أنام، وحيلتي في ابتكار ليل نهاري تفشل أمام يقظة التعب، وأمام إحساس داخلي بأن خارج غرفتي نهار حقيقي وليس ليلاً كاذباً كما أريد، لا أستطيع تصديق ما أعددته في غرفتي، العتمة التي صنعتها بإغلاق الستائر، والموسيقى الهادئة، والرغبة في السرير، كل هذا لا يقنعني ولا يقنع حواسي بالدخول في النعاس·· وأسأل في حيرتي، أسأل وأنا أكاد أترنح إرهاقاً: ما الذي يفعله المتعب حتى ينام؟

لا أنام عادة إلا حين يصبح النوم ضرورة حتمية وسقوطاً كاملاً في الغياب·· غائبٌ عن الفارق بين الليل والنهار، بين الهدوء والظلمة والضجيج، لا فرق لحظة الوقوع في النوم أين يستقر عقرب الساعة، وهل تمتلئ الشوارع الآن·· أم فارغة ووحيدة؟ فقط يجيء النوم في اللحظة الحتمية موتاً صغيراً·· وجميلاً·

تمنيت أن أقع من طولي على الكنبة أو السرير، تمنيت أن أحلم بكل الذين أحبهم، وأحببتهم، بكل الذين معي وحولي، وكل الذين ذهبوا وتركوا وجوههم وأسماءهم في الذاكرة والقلب، تمنيت أن أرى الشوارع التي أنفقت فيها ملايين الخطوات، والمقاهي التي ثرثرت فيها عن الكتابة والبنات الحلوات، والقطارات التي أسندت على زجاج نوافذها رأسي المسكونة بالأهل البعيدين يوم أخذتني الأمنيات خلفها، تمنيت أن أحلم بمن لم أحلم بهم منذ زمن، قلت لنفسي: هذا التعب الثقيل سيقودني حتماً إلى الغائبين المنسيين، كدتُ في لحظة أن أنام، لكنني في عناد قروي قاومت سقوطي في النوم، أجلتُ موتي الصغير لبعض الوقت، لا لشيء إلا لأتذوق حاجتي وأتابع في لذة مجنونة رغبتي في النوم·· ها هي·· ها هي الرغبة تجتاحني، عيناي مثقلتان، والخدر اللذيذ يبدأ من أطراف أصابعي·

الآن اكتفيت من الصحو، ها هو اليوم الثاني من اليقظة، رئتاي مملوءتان بالدخان والنعاس، وعيناي نصف مغلقتين، ولاشيء غير هذا الخدر الجميل، وبخطوات لا تلمس الأرض افتح الروح للنوم الواقف على بابها·· فيدخل·· وأخرج منها إليه، وأنام، ثم أصحو

صباح الخير

صباح الخير أيها العالم الذي يضج خلف النافذة

صباح ما نسيته في نومي

صباح ما لم أحلم به

لا شيء في ذاكرتي

لا وجوه عبرت منامي

أشعل سيجارة

أفتح الستارة عن صباح حار

كم الساعة الآن؟ أي يوم هذا؟

صباح الخير·· أين حصيلتي ؟

ولماذا

لماذا لا يحلم المتعبون حين ينامون؟

 

 


غفلة الضوء

 

·· ويحدث أكثر: يصير الدمُ ماءً

·· ويحدث أسوأ: تشتري من يبيعك بلا مقابل

·· ويحدث كل يوم: تبحثُ في ظهرك عن مساحةٍ تكفي لطعنة جديد

وعليك أيها الطيب الساذج ألا تبكي وأنت تجهز أكفانك برفق وعنايةٍ

هذا قبرك·· ادخله واقفاً ومبتسماً لأن الحقيقة مصباحك في العتمة، أنت لم تخسر حين اكتشفت، أنت امتلكت اليقين، وعن قلبك تسقط الأكاذيب التي رأيت·· والتي سمعت

هذا سريرك··· نم عميقاً كالأطفال، وإن شئت أطلق تنهيدة أخيرة تأخذ معها غبار الطريق والوجوه الزائفة، أيها القروي ما أجملك حين تعرف، وحين تبصر، وحين تقسم لملائكة أحلامك بأن وعد الله حق·

 أيها القروي ما أطيبك حين اختنقت بالضيق واتسعت رئتاك بالدعاء " حسبي الله".

نم الآن

واحلم بالبدايات التي تبتكر تواريخها، ما الذي ينقصك لتطلق في الفضاء مشهداً آخر؟ لاشيء ينقص·· والنهايات لديك فاتحة·· ومبتدأ·

الصوتُ الذي تسمع في المرارة يهديك إلى خُطاك·

اضحكْ حين تصلكَ الأكاذيب المنسوجة في الظلام·

لا تعتذرْ عن الحبِ، يكفيكَ فخراً الفشل في الكراهية·

اسمكَ يدلُّ عليكَ·

ابتهجْ بمن خانوا قلبكَ·· تملكُ الآن مبرراً للحذر·

الذين يلعنونكَ في السرِ والعلنِ·· يحسدونكَ إذا أبصروا روحكَ

النارُ التي تحرقُ دمكَ بفعلِ فاعلٍ طريقكَ إلى الحكمةِ

تلك أسئلة القروي حين تداهمه الحقيقة:

- هل يتساوى الطيب والخبيث؟

- كيف تصبح المحبة باب الجحيم؟

- لماذا تكبر الأكاذيب في غفلة الضوء؟

- هل يقرأ الخبثاء لمعان العيون التي تراقبهم في حذر؟·

- كيف يصدق الكاذب ما نسجه في ظلام روحه؟·

- صباح الخير

- صباح الخير أيها الطيبون الملائكة، صباح الجنة على وجوهكم، صباح الحب الذي يُخلّد ما تقولون وما تفعلون·

صباحُ ما يُقال جميلاً عنكم خلف ظهوركم·

صباح تاريخكم المعُلن·· وسيرتكم المفرحة·

أنتم الحقيقة

أنتم الحياة·

 

أرض المعارك الخاسرة

 

جاهزون للاشتعال···

قلوبنا مدورة كقنابل صغيرة يمتد طرف الفتيل خارجها منتظراً عود ثقاب، وكثيرة هي أعواد الثقاب: كلمة جارحة من حبيبة غاضبة، خيانة جديدة من صديق قديم، رسالة مكتوبة بحبر أسود مملوءة سطورها باللوم والضيق، نظرة عابرة تكشف أرصدتنا الخاسرة في عيون الآخرين، خطأ ما يحوّل الليلة الجميلة إلى كابوس، موعد لم يحضر فيه أحد، قهوة باردة بلا وجه، قلم يجفّ حبره حين تفيض الروح بالكتابة، تليفون صامت إذ يسكننا الحنين إلى صوت عذب، إشارة مرور كثقب إبرة، حياد الجدران الرطبة بعد منتصف الليل، صباح يخلو من امرأة حلوة في نعاسها، عربة مغلقة على رائحة سائقها، سيجارة مثقوبة لا تصلح للتوحد فجراً، باب خشبي لم تلمسه يد·

قلوبنا قنابل صغيرة يمتد طرف الفتيل خارجها منتظراً عود ثقاب، وكثيرة هي أعواد الثقاب: صورة عائلية باهتة على الحائط، هدايا مدفونة في هواء الحقائب، ساعة جدارية يخرج الوقت لسانه منها، فيلم تافه تجبر على انتظاره، شاي خفيف في مساء ثقيل الذكريات، عطر عابر يردك لوجه امرأة لم تكن عابرة، اسم مشابه لجرح مفتوح على وجع قديم، شارع خالٍ من إيقاع الخطى البعيدة، أرق لا تطرده حبوب النوم، يقظة الشياطين في عصب الأسنان، أغنية ترددها باكياً في منتصف الوحدة، رائحة الماء على تراب شارع صغير راقب طفولتك الشقية، جدار حديقة البيت المائل قليلاً، أسماء من استردهم الله، أسماء من تغيروا·· وتبدلت بهم الأحوال، رقم بيتك الأول، الطابق الذي اتسع لجنونك السري، المقهى الذي غادرته الألفة يوم غادره الأوفياء، قطار الثانية عشرة ظهراً، امرأة صغيرة ناعمة تجاورك في عربة المترو، شجرة الليمون الوحيدة بين شجر البرتقال، ظل النخلتين المتجاورتين على يسار البيت، طفولة قلبك المرهونة بالاختبارات، نومك العصي ويقظتك المفاجئة تحت ضوء خفيف·

قلوبنا قنابل صغيرة موقوتة، وساعات الصفر كثيرة: قلة الحيلة أمام عظمة الهمّ، شعرة بيضاء في بدء الأربعين، الحرث في الماء حين تتسرب الأحلام، تخيل الجد العجوز في رقدته الأخيرة، انحناءة ظهر الجدة في الخامسة والسبعين، وهروب الضوء من عينيها، مشهد البيت الطينيّ قبل أن يتطاول الحديد والأسمنت، مجرى الماء الضيق وأسماكه الصغيرة الجائعة، الالتفاف حول موقد النار في ديسمبر البعيد، إغماضة العينين في طفولة خائفة من الشياطين والعفاريت، البكاء المرّ أمام مقابر التراب، قميص التي غابت في الجمعة الحزينة، رسالة هاتفية قصيرة تؤرخ لجنازة القلب، آخر ما قالته المستحيلة في مارس الفقد والحنين·

كثيرة هي القنابل الموقوتة في القلب، كثيرة هي أعواد الثقاب المشتعلة قرب ألغامنا الراقدة تحت عيوننا المثقلة بالوجوه والأماكن والحكايات أي أجهزة دقيقة تلزمنا لإبطال مفعول قنابلنا الجاهزة للانفجار؟ أي خبير يقدر على أن ينزع الخطر عن أرواحنا، ويغسل الذاكرة من طفولتنا البعيدة؟··

تُرى كم قنبلة تنفجر في القلب حين يقودنا الحنين إلى أماكن ليست منزوعة الألغام، إلى شوارع، وصور، وأسماء، ووجوه ضاعت في رحلة الوقت·· والحياة؟

قلوبنا أرض المعارك الخاسرة·· والذاكرة بيت القنابل والألغام

 

 


 

نذالة طيبة

 

أقولها دائماً في وجهه ولا أخافه: أنا لا أحبك·· ولا أطيق قصائدك·

لا حيلة لي أمام نبيل أبوزرقتين غير الهروب والاختباء، تماماً كما يختفي اللص من شرطي محترف، أنا اللصُّ الذي يحمل جرائمه وذنوبه فوق كتفيه، وهو الشرطي الذي يفتح لي في قصائده كشف حساب أسود مملوءا بشروري تجاه قرية بعيدة·· وأهل طيبين ينامون على أمل بعودة ذاكرتي التي أسقطتهم بقسوة·· وعناد·

هذا الشاعر الذي يجاور التفاح كي لا يكون عرضة للنساء هو ذاته الذي يتعذّب: " يا إلهي، الطيورُ/ تعبر بيت جدّي/ الذي ورثناه بصعوبة/ أريد باباً/ يتذكر حنانه "

ليس سهلاً- إذن- أن تصادق " أبوزرقتين " ثم تنام ليلاً قرير العين، وليس ممكناً أن تقرأ أعمال " أبوزرقتين "·· ثم لا ترى نصف الكوب الفارغ· إنك في الحالتين- الصداقة والقراءة- تصبح مسكوناً، ومأخوذاً كصوفي، ويقظاً في حواسك أمام تاريخك الخاص، وذاكرتك المغلقة التي تنفتح على يديه كسرداب قديم منسي: " يصدف أُمي تدعوني/ تهمسُ/ خذ لكَ جسداً/ تهزم الموت·· " ·

ربما لهذا كله وغيره أحب الشاعر والإنسان نبيل أبوزرقتين إلى حد إعلان خوفي من محبته في صيغة نفي مراوغة وحين صدرت مجموعته ( إكيو كونيات) عن دار الانتشار العربي فرحتُ بحذر الخائف من ذاكرته المشحونة التي تقودني بدهاء شعري إلى مقبرتي الطينية المنتظرة على أطراف" البندار" · ثمة نداءات غامضة تجيء من سطوره وكثافته كأنها ترانيم سحرة ورموز بشر خرافيين إن فسرتها وقعت في جنونها، وإن اخترت الصمت أمامها ضاع اطمئنانك في تأويل مقاصدها·

" إكيو كونيات "  ليست مهدئاً للنوم، ولا لغة لتبادل الألفة، إنها تقاطع مدهش بين الهستيري والكذب الممتاز، ولكنها على حد بيانه : "  ساطعة في ترتيب كون الفوضى بصلابة وعن طيب خاطر·· "، وليست مبالغة إن قلت هي إضافة ليس لجنون " أبوزرقتين " بل وللتجارب الشعرية المدهشة في زمن صار التكرار فيه مدخلاً لأنصاف الشعراء· وها هي مرآة " أبوزرقتين " الشعرية تكشف ادعاءاتهم·

أيام متتابعة منذ حصلت على " الإكيوكونيات " وأنا أزيحها من أمامي، ثم أدفنها بين تلال الكتب والأوراق خائفاً من أن تطلق قصائده الرصاصة داخلي، لكنني- في حالات أحبها- كنت أسحب الكتاب كما يسحب الساحر مفاجأته وأذهب معه إلى حيث " أتأمل النوايا " و" ترتطم ذاكرتي بشجرة السماء" و" أتذكر بحسرة أمانة البكاء " و" أحتفلُ بمسافة مستحيلة تلتصق بي"·

إنها إكيو كونيات ( أبوزرقتين) ·· مفتاحه على كون الأشياء والحواس والذاكرة ودليل أرواحنا إلى الذات المطفأة عمداً بفعل الرتابة·· والنسيان·

وإذا كان اتحاد كتّاب وأدباء الإمارات قد احتفى بالشاعر وكتابه فإن فشلي في تلبية دعوة الشاعر الصديق نبيل أبوزرقتين في الحضور ليس له ما يبرره·· غير أنني أستنجد بشاعريته حين يقول:

" الصداقة نــذالة طيبة ". وها أنا الــيوم أحقّق نبوءته الشعرية بجدارة·· وأفــوز بلقـب " صديق نذل بدرجة امتياز!" ·

 

 

 


أرق النموذج

 

قبل عشر سنوات رأيته في زيارة لصديق مشترك حين كان قادماً في إجازة إلى القاهرة، جلسنا في شرفة شقة تطل على شارع هادئ في ضاحية المعادي القديمة، وأشار صديقنا - بعد أن قدّمنا في تعريفٍ مختصرٍ- إلى لوحة معلقة على الجدار خلفنا، وقال: " إحدى لوحات المزروعي "، كانت هذه اللوحة بالذات تثير انتباهي كلما جئت صديقي زائراً، ومع غيرها من تفاصيل صغيرة، وأحاديث جادة وساخرة، بقيت جزءاً من مشهد أثير في الذاكرة كلما خفق القلب في تعب وحنين إلى كل ما مضى بعيداً·

في تلك الليلة استمعت إلى المزروعي متحدثاً عن الشعر، والقصة، والتشكيل، والنساء والحب، وكان في كل ما يقول يصنع تلك الطرقات الغامضة التي تأخذك بقوة إلى متاهات كبيرة، والغريب أنك تحب المتاهة وتستهويك، لا لشيء إلا لكونها مصنوعة باحترافٍ من فنان يقف، ويجلس، ويتحرك، وينام على قلقٍ· فنان يكره أن يكون مكرراً حتى في ظهوره المفاجئ، واختفائه المباغت عن أصدقائه، ويرصد عبر روح ثانية نفسه، فتجد صراعاً يفجر كتابة أخرى وأحوالاً مغايرة، ونصوصاً ولوحات تقسم بينك وبين نفسك أن كثيرين يقدرون على فعل مثلها، لكنك حين تقرأ وترى جيداً، توقن أن ما اصطاده المزروعي لا يمكن لأحد أن يصطاده، قد تصدمك جرأته، ويستوقفك جنونه، وتنفر من مفردة قاسية أو خارجة، أو تضيق بجملة تستبدل النظرة بالتنظير، إلا أنك سرعان ما تعود وتهمس : إنه المزروعي ··

هكذا جرى الأمر، جئت إلى أبو ظبي،  ووجدت المزروعي حاضراً في المشهد الثقافي والإنساني، حاضراً بغرائبه وإبداعه، لم تتوطد علاقتنا، بل بقيت كما كانت تجيء مصادفة كما جاء لقاء الشرفة البعيد، وإذا واعد أحدنا الآخر على فنجان قهوة، اشتركنا معاً في عدم الوفاء بالوعد، وكأن في الأمر جمالاً حافظنا عليه من رتابة المواعيد المتحققة·

ومنذ أيام جرت مصادفة أخرى، حين أهداني مجموعته الأخيرة، النص الشعري الطويل الذي يطارده منذ أكثر من ثلاث سنوات، وكان يخشى من فقد العنوان الساحر الدال " أرق النموذج "، وحين وقعت عيناي عليه ابتسمت، فيما أغراني العنوان بعنوان صحفي لائق بالشاعر وحالاته، فقلت: " المزروعي·· نموذج الأرق" !

هو المزروعي، شاعراً، وإنساناً.. نموذج للأرق الأبهى الذي يمطره غرابة تليق بروحه، لكن لا تصدق انشغاله بالفناء، حتى لو رسم العتمة بمهارة:

( روحي تائهة

وحدها تائهة

ترسم على السرير جسمي

مشغولاً بفنائه )

مرة أخرى لا تصدقه لأن انشغاله الحقيقي، ومصدر قلقه الأبدي هو المقابلة بين الخلود والعدم·

وعليك حين تقرأ المزروعي في " أرقه النموذجي" ·· أو في " نموذجه الـمُؤَرِّق" ·· أن تبصر البياض بين سطر وآخر، وتقديم جملة على أخرى، وتصغير هذه، وتكبير تلك، وأن تستعين بهوامشه الشعرية للدخول إلى تمام نصه، وإلى قصده النهائي- ربما- الذي أورده في مدخل لا يبرر بقدر ما يحمل من تأويل: " من هنا يكون العبث هو الضرورة المنطقية لرفض أية تراتبية كانت، كي لا تنأسر الذات برموزها اللغوية "

أسئلة المزروعي الشعرية لا تطالبك بالإجابة، بل تهديك القلق بكرم حاتمي، هو لا يضعك في المقابل أمامه ليتلو عليك عذاباته، وأحواله، وتجلياته، بل هو يشدك - ربما من ياقة قميصك، أو حتى شرايين قلبك- لتدخل معه إلى القصيدة وتحترق بنارها، وحيرتها، ونوافذها المفتوحة على السؤال:

( أليس كُلُّ ما مررنا به

وبمجرد الانتهاء منه

يعود مرة أخرى) ؟

ربما، لكن المزروعي يعود مغايراً لكل ما قدمه من قبل منذ " في معنى مراقبة النار" عام 1988، وحتى " لكنك أنت يا آدم " عام 1998، وإذا كان ثمة حضور لافت للعقلانية على حساب الشعرية في بعض مفردات نصه " أرق النموذج"، إلا أن ذلك كان هاجساً غير بعيد عنه، وكأنما كان يدرك أحياناً ضيق اللغة أمام سعة المعنى، فيسأل: " ما الذي يتحتم عليّ فعلُه، لتحوير وتحويل " الفكر الشعري" من الكتابة إلى التقصي؟ سؤال في هامش قصيدته الطويلة، يفتح المزروعي  بوابة أكبر لقلق فني جديد، لا يعيش أبداً دونه، ولا يطيب له الأرق إلا إذا كان مثقلاً بالكتابة واللوحة، فيما يبقى موعدنا المنسي عن قصد بعيداً عن رائحة قهوة تنتظر·

 

 


الذكرى·· كتاب القلب

 

حقيبةٌ واحدةٌ

وعينان حزينتان دون سبب كأولئك الدراويش الهائمين في حضرة التواشيح والذكر حول المساجد الصغيرة النائية·

حين لامست خطواته الأرض التي لم يزرها طوال عشرين عاماً، قال: " أعرف وجهتي·· "،  ومضى قاصداً المدينة البعيدة الملقاة بعناية على مدخل البحر، وفي صمته العميق أنفق الساعات في سيارة مكتظة بالحكايات المكررة عن تعب السفر والانتظار، ومن بعيد تجيء رائحة اليود، تعبر رئتيه قادمة من عمق البحر فتهزه كغصن أخضر·

- دعوني أذهب···

يقولها وهو يطلق تنهيدة خلف ذاكرته المعبأة بالأسماء والوجوه والروائح، وحين بات على مدخل المدينة، رآها كما هي تفتح نوافذها دون ملل على " المتوسط"، تتزين له صيفاً كعروس، وتراقبه شتاء من وراء زجاج الشرفات كعاشقة لا ترغب في إغماض عينيها حتى لا تفوتها حركة الموج لحظة تنام الرغوة البيضاء في دلالٍ على أول الرمل·

ها هي الإسكندرية، هذا ترابها الزعفران، وها هو ( أبو مصطفى) ·· يجيئها في شتاء باردٍ، يحتمي بحرارة قلبه، ويستدفئ بذاكرته، عشرون عاماً مضت منذ أن رتب أوراقه وحقائبه وقال ( وداعا ً) ، حاملاً لقب المهندس، وشهادة جامعية وتلالاً من التطلعات، يذكر الآن بعض ملامح اليوم الأخير، ثمة أصوات تأتي إليه من عمق بئر قديمة ساعة ألقى نظرة الوداع على الأرض والناس والبحر، فكتم حرقة كادت تجر من عينيه خيط الدموع·

- أعرف وجهتي·

حين قالها لم يكن يعرف أن الأرض تتغير حين يتبدل الناس، أن البحر الذي يطوق خصر المدينة لا يضمن بقاء الحال، ولا يمنع تسرب البشر إلى التراب·

ها هي الإسكندرية، واقفة على اسمها، على بحرها، على شوارعها، على زينتها، وأنت أيها العائد بحقيبة واحدة·· ما الذي تقصده في رحلتك إلى قلبها؟ هل أتيت بمفتاح ذاكرتك القديمة؟ هل أعطتك يوم رحيلك وعداً بالانتظار؟

استراح إلى رائحة الخبز في المطعم الصغير، بدت الأماكن التي يعرف مهجورة في ضجيج زحامها، استوى على مقعده كجنرال مهزوم، لا أحد هنا يدقق في ملامحه ثم يصرخ في فرح ودهشة ( أبو مصطفى )، لا أحد هنا أمام واجهة ( البقالة ) يذكره، والحلاق العجوز تعب من تعاقب الأيام والثرثرة على رؤوس الزبائن، وقضى نحبه ذات صباح، وانقطعت السبل برفقاء السكن والدراسة، تفرقوا كما حبات مسبحة انفرطت أسفل طاولات المدن والقطارات·

- أين ذهبوا ؟

لم يطرح "أبو مصطفى" سؤاله على المارين حوله، ولم يستوقف أحداً ممن ظن بهم المعرفة، كان قلبه مسكوناً بالأسى والمرارة، من يملك أن يجيبه على سؤال الغياب، سؤال الموت الذي اختطف الوجوه التي احتفظ بها في ذاكرته، ها هي الأماكن ذاتها، لكنها تخلو من الطمأنينة، آهٍ أيها العائد بحقيبة واحدة، أيها المطارد بالحلم القديم، أيها الحزين على ما فاتك يوم شددت الرحال·

- لم أجد أحداً·· كل من عرفتهم ماتوا·· أو رحلوا خلف نداءات الرزق في البلاد البعيدة·

- ·· والمدينة يا سيدي؟

- المدن تتغير حين تفقد ذاكرتها، المدن خرساء لا تنطق إلا بألسنة الناس، المدن تنقص حين يزداد الحنين إلى ما فات·

- ما الذي تقصد حين جئت متأخراً، أنت تبحث عن ذاتك، أنت تبحث عن الذي كنته هنا، وهؤلاء، أولئك الذين استردهم الله كانوا دليلك إلى ماضيك، استرح الآن، اقرأ فاتحتك الطيبة، وأغلق حكاياتك أمام أطفالك حين يتابعون لمعان الذكرى في عينيك·

استرح أيها الدرويش

أقم صلاتك آخر الليل

وافتح ذاكرتك على سرير الوقت

قل: البحر ملاذ·· والذكرى كتاب القلب·

 

 

 

 

عفريت الجبل الغربي

 

 

- يا الله·· أهذا هو " خُط الصعيد" الذي بث الرعب في قلوبنا؟

كدت لا أصدق أنني وجهاً لوجه أمام خط الصعيد الذي طاردته أجهزة الأمن شهوراً بطائرات الهيلوكبتر والعربات المصفحة حتى أمسكت به قبل أن تفقد هيبتها.

في قرية " القرامطة" التقيت بزوجتيه وابنه، إضافة إلى حكايات بلا حصر على لسان شيخ الغفراء، وفي سجن " ليمان طره" حاورته لساعة متصلة، وفي مكتب محاميه استمعت إلى تفاصيل التحقيق معه، وحملت معي ملف قضيته الذي تزيد صفحاته عن ثلاثمائة ورقة أضعته يوماً في التنقل من سكن لآخر·

هو( شعيب) ذاته الذي رفض مقابلتي في زيارتي الأولى إلى السجن دون سبب مما جعلني أسافر 700 كيلومتر بالقطار في اتجاه جنوب مصر بحثاً عن قريته النائمة أسفل جبل شاهق، وهناك التقيت زوجته الأولى التي تكبره بثلاثين عاماً، وزوجته الثانية الشابة التي رزق منهل بطفل سماه (حميدة يومها عدت بحصيلة وفيرة من الحكايات والصور، وعاودت طلب مقابلته ثانية، وأنا أخبئ كلمة السر التي ستجعله يوافق هذه المرة.

- سألني مأمور السجن: ألم يرفض مقابلتك من قبل ؟

- ابتسمت في ثقة: نعم رفض لكنه سيوافق اليوم

- أنت تعلم أنه ليس من حقي دفعه غصباً لمقابلتك

- أعرف ولكن كل ما أرجو أن ترسل إليه أحداً يخبره أنني أحمل له رسالة من ابنه( حميدة )

تجاهلت علامة الاستفهام والدهشة على وجه المأمور الذي قطب جبينه فكاد النسر الراقد على كتفه يقفز باتجاهي، أشار إلى أحد الضباط:

- هات شعيب

 وبعد خمس دقائق كان الضابط يدخل وبرفقته الرجل الذي حيرني

- يا الله أهذا هو الذي بث الرعب في قلوبنا ؟

مضت أكثر من خمسة عشر عاماً منذ أن أخذت قطار الثانية عشرة ظهراً، حاملاً حقيبة يد صغيرة يرقد داخلها جهاز كاسيت وكاميرا ودفتر ملاحظات، كنت راغباً في الحصول على شيء من أسرته لأقنعه بالحديث، وكنت مدفوعاً بتتبع الظروف والأسباب التي جعلته يخرج على القانون ويصبح مصدراً لفزع الناس وغضب الشرطة، كنت أريد معرفة أول خطوة خطاها على طريق الجريمة.

بعد 7 ساعات ونصف توقف القطار في سوهاج، نمت ليلتي في فندق حرمني من النوم فيه صوت شجار في الغرفة المجاورة، وفي الثامنة صباحاً كانت السيارة تقطع الطريق الترابي باتجاه قرية " القرامطة" وقبل أن تتراءى البيوت الطينية بقليل التفت ناحيتي السائق قائلاً:

- انزل هنا

اتسعت عيناي كأنني لم أفهم أو فهمت ولم أقتنع فبادرني ثانية:

- العمر غالي يا بيه

خائفاً أنزلني سائق سيارة الأجرة على أطراف القرية، وعاد أدراجه تاركاً عيني معلقتين بسحابة التراب التي أطلقتها السيارة خلفها.

قطعت الطريق إلى القرية متوجساً، وفي ذاكرتي ما سمعته عن قرية القرامطة، عن المرأة التي أخذت بثأر زوجها ثلاث مرات، عن الرصاص الطائش القادم من الحقول الملتفة حول الطريق كثعبان، عن القتل بأعصاب باردة في وضح النهار.

- العمر غالي يا بيه

قالها السائق ومضى لحال سبيله، والصبي الذي قابلني على مدخل القرية لم يطمئن لي فوضع طرف ثوبه في فمه وانطلق جرياً، تمتمت ببعض آيات من القرآن الكريم، خطواتي بطيئة وقدماي ثقيلتان وكأنهما معبأتان بالرمال، فجأة ظهر أمامي الصبي الذي جرى قبل قليل وبجواره رجل على مشارف الخمسين يرتدي جلباباً أبيض وعمامة رمادية، وفي يده عصا طويلة، قطع علي الطريق بصوت غليظ

- السلام عليكو

رددت عليه السلام وسألته عن دوار العمدة فجاء صوته كطبل قديم:

- أي خدمة أنا شيخ الغفر.. مين حضرتك ولا مؤاخذة

 اطمأن قلبي وخفت قدماي من ثقلهما، وشرحت له غايتي وهدفي فصافحني بيد خشنة، ودعاني إلى بيته لشرب الشاي:

- وبعدين نشوف اللي أنت عايزه

 وفي غرفة الضيوف جلست قبالته أحدثه عن شعيب، وأسأله عما يعرفه فيجيب مدعياً خبرة أمنية، وكفاءة لا يقدرها مرؤوسوه هناك في مديرية الأمن، أما ضوء فلاش الكاميرا فقد جعله هادئاً وأليفاً، وأنا أعده بصورة وتعليق لائق بخبراته.

- العمر غالي يا بيه

قلت لشيخ الغفراء في قرية القرامطة ما قاله لي سائق الأجرة الذي فر هارباً، فضحك حتى كشف عن لثته وأسنانه المتآكلة:

- لا تصدق الأمن هنا مستتب

 قالها وكأن العبارة في جيبه نائمة منذ 100 عام، ثم أضاف جازماً:

- أسرة شعيب يا بيه ملعونة ومطاريد أبا عن جد

- قلت بهدوء: أستأذنك.. سأذهب إليهم

- قال بحدة: لا.. سيحضرون هم إليك

وأشار برأسه إلى الصبي ذاته فوضع طرف ثوبه في فمه وانطلق مسرعاً، فيما كان شيخ الغفراء يحثني على التقاط المزيد من الصور له فأطاوعه بحرص، وأمام إلحاحه أغلقت عدسة الكاميرا، واكتفيت بتشغيل الفلاش لكن حيلتي لم تنقذني من حكاياته.

صبرت مجبوراً على الاستماع إلى جبرتي القرامطة الذي يدعي المعرفة، ويصدر الأحكام بلا خجل، وحين جاءت زوجة شعيب الأولى، تلك المرأة العجوز الضامرة، رأيت في وجهها قسوة غريبة، وبدت في عينيها نظرة ترقب، وخيل إلى أنها تتوجس خيفة من هذا الأفندي، ولعلها ظنت أن الأمر له علاقة بالشرطة، خاصة وأن حدة شيخ الغفراء أشعلت الجلسة توتراً، حاولت تهدئتها حتى اطمأنت بعد تفسير وشرح ، وبعد قليل حضرت زوجته الثانية وبرفقتها ابنها (حميدة)،  فالتقطت لهم صوراً واستمعت إلى إجاباتهم، وأطلقت بعدها ساقاي للريح بعيداً عن شيخ الغفراء، وبعيداً عن المكان، وفي أذني ترن كلمات سائق التاكسي:" العمر غالي يا بيه".

- يا الله أهذا هو الذي بث الرعب في قلوبنا ؟

وقف "شعيب" بجوار الضابط مستكيناً، قصير القامة ممتلئ كأنه جوال قطن، على رأسه عمامة ضخمة تخفي جبهته، عيناه الضيقتان زائغتان ومسكونتان بحزن قديم، أحسست أنه صقر مقطوع الجناحين فقد قدرته على الطيران منذ زمن، جلبابه الرمادي بدا أن يداً غير مدربة غسلته في عجالة·

استقبلته مبتسماً ومصافحاً، تجاهلت القشعريرة التي عبرت جسدي لحظة وقعت يدي في يده، أشرت إليه بالجلوس فألقى بنظرة متسائلة إلى مأمور السجن، في تلك الأثناء كان النسر على كتفه مسالماً فهز المأمور رأسه بالموافقة، وأمعن في ضيافته طالباً لنا كوبين من عصير الليمون، لم يكن مثلجاً فاكتفينا بهواء المروحة ذات الصوت المتحشرج القابعة في الركن كحارس لا يتوقف عن الضجيج·

- ابنك "حميدة" يسلم عليك·

كنت كمن ألقى في قلبه كرة ملتهبةمن النار، فتحرك على طرف المقعد متحفزاً، ورمقني بنظرة لا تزال حاضرة في ذاكرتي رغم خمسة عشر عاماً مضت على زمنها، كان ضعيفاً ومقهوراً ومنكسراً إلى حد يثير الشفقة، هذا الخارج على القانون، هذا الذي روع الشرطة والناس، وأيقظ مخاوفهم فأغلقوا بيوتهم كلما زحف الليل، هاهو يتلمس خبراً صغيراً عن ابنه وزوجتيه·

ولد " شعيب"لأب فقير، وفي صباه عرف سرقة الفواكه والخضراوات، كان حين يقرصه الجوع يذهب إلى الحقول في أطراف القرية ملتهماً بعض حبات الخيار، أو مهشماً بطيخة على ركبته آكلاً من بياضها أو احمرارها حتى تشبع عصافير بطنه وتصمت، ولم يكن عقابه- حين يكتشف أصحاب الحقول أمره- يزيد عن علقة ساخنة تنتهي غالباً بصفعتين على الوجه مع تحذير بعقاب أشد إذا عاود فعله ثانية، ولأن الجوع كافر كما كان يهمس لنفسه، عاود السرقة مرات كثيرة، حتى تزوج وهو في السابعة عشرة من أرملة تكبره بثلاثين عاماً، لم تكن أرملة لرجل عادي مات على سريره، بل كان من أعتى الخارجين على القانون في الصعيد الجواني كما يقولون، وحين قتل زوجها في مواجهة مع الشرطة عادت إلى قريتها " القرامطة" لتتزوج من " شعيب" ابن السابعة عشرة وعلى يديها يتحول بعد سنوات إلى " خُط صعيد آخر"·

تحت رعايتها أيضاً تحول الصبي من سرقة الخضراوات والفواكه إلى سرقة "ما خف وزنه وغلا ثمنه"، ولم تعد عصافير بطنه هي التي تحركه تجاه السرقة، لقد أصبحت لجيوبه الفارغة عصافير لا تقنع بالخيار والبطيخ، بل تنشد الأوراق المالية من فئة عشرة جنيهات فما فوق·

ذات مرة سرق شعيب ماكينة ري غفل عنها صاحبها لكنه عرف سارقه فأبلغ عنه العمدة واقتيد غصباً إلى قسم شرطة المركز، وهناك في الزنزانة الضيقة المحشوة كعلبة سردين باللصوص تغير شعيب كلياً، وبفعل إهانة جارحة لشرفه كرجل قام بها الضابط على الملأ، تحطمت روح الصبي وكبرت في داخله رغبة الانتقام، وعندما أخلي سبيله كانت عائلته قد دخلت في خصومة ثأرية مع إحدى العائلات، وبرفقة عمه ونفر من أقربائه مضى في طريقه إلى حقول القصب وبطن الجبل الغربي، وصارت غاراته الليلية على القرى المجاورة سرقة ونهباً وترويعاً، فوجد الناس فيه ضالتهم لنسج الحكايات المسائية، وحاز بجدارة على لقب ( خُط الصعيد·· عفريت الجبل الغربي)·

-أنا زعلان من الصحافة··

قالها لي حين عرف بمهمتي، وبعد أن رويت له عن مقابلتي لزوجتيه وابنه، قالها شعيب لأنه كان غاضباً من التهويل، من العناوين التي صنعت أسطورته وضخمت جرائمه، وأضاف في حزن:

- شعيب سرق·· شعيب قتل خمسة·· شعيب خُط الصعيد·· الصحافة ظلمتني والناس صدقوها·· نص اللي كتبته الصحافة محصلش·· حرام عليكم·

الآن وأنا أروي له تفاصيل لقائي بزوجته وابنه بدا ضعيفاً بفعل مشاعره الراقدة تحت غبار ثقيل من القسوة، ولا تملك وأنت تراه منكسراً إلا أن تدير عينيك قليلاً عنه فيما تحترق أعصابك وأنت تبحث عن سر هذا التناقض في مشاعرك تجاه شخص مذنب يستحق العقاب على ما فعله·

- اشرب الليمون···

يمسك بالكوب وينظر إلى مأمور السجن مستأذناً في الشرب، طاعة إلى حد الخوف، وخوف كان بالأمس خروجاً معلناً على القانون، الآن يثني الضباط على التزامه، وانضباطه في حبسه الانفرادي الطويل، هذا الذي وصفته الصحافة الفرنسية بـ ( روبن هود الصعيد)، هذا الذي دفع الآباء إلى غلق بيوتهم على بناتهم بعد السابعة مساء، لا يعيش وحده في حبسه الانفرادي بل استأذن إدارة السجن في اصطحاب  ( قط) أليف ليشاركه وحدته، رآه ذات مرة في فناء السجن فقرر أن يأخذه صديقاً، يطعمه من طعامه القليل، ويحدثه بصوت عال إذا غلبه الحنين إلى وجه ما·

ابتسم المأمور نصف ابتسامة حين كان يتحدث شعيب عن صديقه ( القط )، وفي لحظة فاصلة ما بين الحكي والصمت أجهش بالبكاء، امتلأت عيناه بالدموع واستأذن في الانصراف، تركته بعد أن وعدته بزيارة قريبة، قلت له سأزورك دون كاسيت أو كاميرا أو دفتر ملاحظات، كان وعداً من إنسان لإنسان آخر ليس بينهما شيء سوى هذا الشعور الذي ينتابك ساعة تواجه الضعف الإنساني صاعقاً يزلزل كيانك·

أكثر من خمسة عشر عاماً مضت على وعد قطعته تحت وطأة إحساس غريب، ولايزال الوعد معلقاً في رقبتي، لا أعرف هل لا يزال شعيب حياً؟ هل أفرج عنه لانتهاء فترة العقوبة أم لانضباطه وسلوكه الحسن، أم لا تزال التوصية الملحقة بملفه حائلاً بينه وبين الحرية، ثمة ورقة مانعة وقاطعة توصي بعدم الإفراج عنه تقول: (خطر على الأمن العام)·

 

  

 

خطوط مائلة على غبار الزجاج

 

 

في الصباح، وقبل أن يخرس أبداً، قال إنه لم يعد في حاجة إلى صوته، وإنه تعب من الكلام، تعب من الحديث عن الضائع والمفقود، وإن نبراته لم تعد تدل عليه، لم تعد تشير من وراء ستار إلى طيبته التي اشتهر بها يوم نطق لأول مرة، قال إن صوته لم يعد عميقاً، وصار أجوف كطبل، أضحى بلا صدى، حفظ الكلمات الجميلة كلها، وخاطب الناس بها، لكنها لا تجدي شيئاً، وكذب كما يكذب الناس فلم يسترح أبداً، قال إنه لم يعد يحب لهجته التي تطل بين كلامه فتؤنبه وتشد رقبته إلى حبل الذنب يوم هجرها مرغماً، الآن لم يعد يحبّها لأنه لم يستطع نسيانها فاستبدل النسيان العصي بالكراهية، قال إنه تخلى اليوم عن صوته، وسيمضي ما بقي له من عمر أخرس مكتوماً حتى في بكائه، حتى في وصاياه الأخيرة إذا أُتيح له أن يوصي أحداً، قال إن صوته مشروخ ومضلّل، تحسبه مرة صوت ناي ينفخ فيه عازف ضرير، وتحسبه مرة نواحاً فوق قبر، ومرة تظنه صوت ريح عاصفة تضرب نوافذ خشبية قديمة صدأت أقفالها، وكثيراً ما يحسبه السامعون استغاثة قادمة من جوف بئر مهجورة منذ ألف عام·

قال إنه تخلى عن صوته لأن لسانه تعب وسقف حلقه تعب، وشفتاه مثقلتان بما قاله من الألفاظ والألقاب وبما قاله ولم يحبه، وبما قاله ولم يقصده، وبما قاله ولم يشفع له، وبما قاله وأُدين به، وبما قاله وسُئل عنه، وبما قاله ولم يصل غايته، وبما قاله ولم ينقل عنه، وبما قاله وقيل غيره، وبما قاله وكذب فيه، وبما لم يقله ونُسب إليه·

قال إنه كره صوته لأنه لم يقل لمن يحبها " أحبك" بما يكفي، ولم يدخر لها من اللغة ما لم يفسده لسانه، ولم يقل لطفله بعد حكاياته عن القرى والمدن وما بينهما من الحب والأسى·

قال إنه تخلى عن صوته لأن أحداً لم يعد يسمع، لأن أحداً لم يعد يرى غير الإساءة في الكلام، لأن أحداً لا يرى المحبة في النبرة والإجابة والسؤال، لأن أحداً لا يريد الحقيقة، ولأن الأقنعة لم تعد حكراً على الوجه، وأضحت ثوب اللسان، قال إنه كان ساذجاً، إذا أحب قال: " أحببتُ "، وإذا كره قال " كرهتُ " ولم يعرف حيلة اللعب فوق الحبال، لم يكن رمادياً معلّقاً بين الكلام والكلام، كانت كلمته واحدة، محبته واحدة، غضبته واحدة، لكنه استيقظ على لغة من الزئبق، وأضحى بين خيارين: الصمت أو الكلام من الكلام في الكلام عن الكلام·

قال إنه لم يختر الصمت··

قال إنه لم يختر زئبق الكلام··

قال إنه لم يتخل عن صوته هذا الصباح، تركه على مدخل شارع جانبي في آخر أطراف المدينة، وأشار إلى عربة التاكسي، ووصف بيته للسائق بخطوط مائلة على غبار الزجاج·

 

لكنه لا ينام

 

هل جرّبت مرة أن تجمع أوراقاً قديمة وتطويها، ثم تدفنها في عتمة الأدراج، وتطلق تنهيدة طويلة مستريحاً لجنازة صامتة وسرية قمت بها بمفردك، مطمئناً بعدها أن ما عشته في سطور الرسائل، صار الآن مقبوراً في رائحة الخشب؟

هل قررت يوماً أن تنهي علاقة ما، وأن تفصل بينها وبينك بمسافات هائلة من النسيان، فتمسك في ثورة الغضب والقرار بكل الهدايا والورود المجفّفة وتشعل فيها النار، وأنت واقفٌ ومأخوذٌ تسأل أمام اللهب والدخان: هل أخطأتُ حين قررتُ عمداً إشعال هذا الحريق؟

هل فكرت لحظة في ارتكاب جريمة مدبّرة بعناية، فقمت تحت وطأة الذكرى والمرارة باقتطاع بعض السنوات من عمرك ونفيها خلف الوعي والإدراك، هارباً من وجوه قديمة اكتستْ بابتسامات صفراء، وراغباً في تنظيف ذاكرتك من أكاذيب كبرتْ حولكَ حتى قاربتْ الحقيقة، فإذا بكَ حتى تنجو لا تكتفي بنفي الآخرين، فتقتطعهم وسنواتك معهم·· وتغلق الباب كأنك اليوم مثل ما كنت قبل أن تراهم؟

هل وقفت ساعة الغروب على الشاطئ وراقبت المشهد الملوَّن حين تسحب الشمس خيوطها، وأنت تفتح كتاب أيامك، وتسأل: من أين تجيء التفاصيل الصغيرة التي توهمت سقوطها في الغياب؟

هل اخترت آخر الليل حين تنام الكائنات لحناً موسيقياً هادئاً، وتابعت النغمة الحزينة في اللحن تصعد وتهبط، ومعها تدخل التأويل والشرود والتخيّل، فتقاوم الدموع خوفاً من يقظة البكاء بصوت، وحين يرق اللحن خلف صوت المطربة تغني معها هامساً وقابضاً على بقايا من المنسيات البعيدة؟

هل جلست مرة للكتابة، فإذا الهوامش تفتح أبوابها، وإذا هي على غير ما ظننت ممتلئة وثقيلة، وإذا بك محاصر بألف·· ألف خاطرة·· وألف ألف وجه ممن عبر أصحابها طريقك·· وإذا بالريح تقلب أوراقك، والمكان يهتز، والدخان يملأ الغرفة، وفي دهشتك ورعبك تزدحم رأسك بكل من عاشوا في حياتك·· فتترك القلم والورق وتهرب إلى النوم·· لكنك لا تنام؟