آخر
التعب
أغمض عينيه على مشهد
سقف الغرفة الباردة،
وهو الذي كان يحسب أن الحب
يكفيه للفوز بوجه المرأة
المستحيلة ليغلق عينيه
لآخر مرة على ابتسامتها.
لم أعرفه إلا خاسراً،
ولم ألتقه مرة في الصباح،
أو المساء إلا وهو يطارد
حلماً مستحيلاً، لا يستريح
للسهل والممكن، تقوده
أفكاره إلى المغلق والعصي،
وحين ينفق الليالي الطويلة
بلا جدوى، وتسقط أيامه
وتتراكم خسارته، يعلق
قلبه من جديد بالغامض
البعيد·
كنتُ حين أراه مبتسماً
أشفق عليه من المرارة
التي تختفي وراء ضحكته
الخافتة، وعندما تضيق
عليه الأحوال والجدران
يفر إلى الشوارع المزدحمة،
وفي آخر التعب يمشي إلى
مقعده الصخري على الكورنيش
مغلقاً أذنيه بسماعتين
متصلتين بجهاز الأسطوانات
الصغير، شارداً وراء
الأغنية والضوء الساقط
من المصابيح على صفحة
الماء، هل كان
يدرك حركة الناس حوله؟
هل راقب عن عمدٍ مرور رجل
وامرأة وتساءل عن وحيدته
الغائبة؟ هل أشعل سيجارة
من أخرى، وتذكر طفولته،
وقبلة وداع أبيه له ساعة
اختار الرحيل وراء رزقه
وأحلامه؟ هل أحصى سنواته
وخسارته وألقى في المساء
بزجاجة مغلقة على رسالة
لن تصلها؟ هل اختنق بدموعه
التي يردها غصباً إلى
داخله كيلا تفضحه؟ هل
عَذَّب نفسه بما يكفي
باستعادة وجوه الأصدقاء
الذين تساقطوا طيبين
وخونة، ولم يبق في حصيلته
سوى ذكريات كرؤوس الدبابيس
المغروسة تحت جلده؟ هل
أيقظ ذنبه الكبير وعاقب
نفسه بمزيد من التبغ والعبث
لأنه كان غائباً حين رحلت
شقيقته واسترد الله وديعته؟ هل جرّب طريقته
الفريدة في النسيان؟
أعرفه حين يريد أن ينسى
يغرق في تتبع التفاصيل
واحدة·· واحدة، ويفرح بالذي
يسكنه، هو كالبيت الذي
هجره أهله، أغلقوا الباب
خلفهم دون أن يعيروا جدران
قلبه التفاتة، دون أن
يتركوا على طاولة روحه
رسالة مختصرة تشي بعودة
محتملة.
هو راغب في التذكر لا
النسيان، تلك طريقته
الفريدة في أن يستحضر
الهامشي والمهمل من ذكرياته،
فيحفظها حريصاً على ألا
يضيعها الوقت والغياب، يذهب وحيداً
إلى الأمكنة القديمة،
يتنفس الهواء ذاته الذي
اقتسمه يوماً مع الغائبة
المستحيلة، يأخذ الزاوية
نفسها في المشهد القديم
الذي كانت تملأه·
أعرفه حين يرغب في النسيان،
لا يغير العطر الذي أهدته
إليه آخر مرة، لا يبدل
زجاجتها التي بقيت خلفها،
يسمي الشوارع بأسمائها
وألقابها، ويناجي البنايات
التي تعبر كل صباح أمامها،
ويكره أن يكون لغيرها،
يستقصي رائحتها في العابرات
اللاتي لا يصلن حدود قلبه، أعرفه حين
يكره في الحب، يقتل أحقاده
الصغيرة في الخفاء، يلتمس
العذر لمن أهدته الخذلان،
لكنه يموت في الفقد والخديعة،
يرتب هزائمه كجنرال خسر
حربه دون قتال·
- ما الذي تبقى من صديقي
الذي أعرفه؟
- لا شيء سوى اسمه، لا
شيء سوى هذا المقعد الحجري
أمام البحر، لا شيء سوى
سؤاله الأبدي: هل يمكن
أن تبلغ القسوة هذا الحد؟
الأصدقاء
الخونة
الأصدقاء
الطيبون
أصدقاؤك الخونة·· تراهم
فتحسبهم ملائكة ضلت طريقها
إلى الأرض، يحفرون القبور
بعناية واحتراف، ينصبون
الفخاخ والمشانق والمقاصل،
لا يحسبونها بالعيش والملح،
ولا يحرمون على أنفسهم
الدسيسة والتآمر، ماهرون في التلون،
عباقرة في مدحك وذبحك،
تمد لهم اليد فيقطعونها،
تسند ظهورهم حين تنحني
فيكسرون ظهرك حين تكون
في غفلة، يكرهونك لأنك
نقيضهم·
ناعمون كملمس جلد
الثعبان، تحسبه حريراً
فتجده كفناً جاهزاً لميتتك
المدبرة، لا يذكرون فضلاً
لأحد، ولا يحملون عرفاناً
لمن يستحق، ولاؤهم لمن
يدفع ويزيد، لمن يغذي
غرائزهم السوداء، لا
يخجلون من النظر إلى المرآة،
يصففون الشعر وتقع عيونهم
على عيونهم فلا تطرف خجلاً
مما يفعلون، ينامون بعمق
لا تؤرقهم موازينهم المثقلة
بالضغائن·
أسماؤهم طيبة، هدوؤهم
هدوء الخدعة والتربص،
تصافحهم وأنت ترى بعين
قلبكَ دمكَ في أيديهم،
لا يحبونك ولو صرت ملاكاً
خالصاً، يحبون ورطتكَ
وسقوطكَ، وعثراتك، يصلّون
ويبتهلونَ أن يقصفَ اللَّه
عمركَ، وأن يقعدكَ المرض،
وتخنقكَ الديون، يمصمصون
الشفاه يوم يصيبك الأذى
وهم فرحون فيكَ، أحلامهم
أن تكبر مصيبتك وأن تنسد
الطرق أمامكَ، وأن تخسر
من تحبهم ويحبونك لوجه
الله، حين يرونكَ قادراً
يكرهون قدرتكَ وما تقدر
عليه، وحين يرونكَ واقفاً
لا تشكو علةَ أو تعباً··
يتعبون·
تعرفهم على حقيقتهم
فتطلب لهم الرحمة ولا
تكرههم، ويعرفونكَ على
حقيقتك فلا يطلبون المعذرة
ويحبونك، وفاؤك يحرق
دماءهم، وصدقك يقوض أنيابهم،
وطيبتكَ تفسد ما تعده
شياطينهم، يطلقون ألسنتهم
المرة في الخفاء، يأكلون
سيرتك ويتربصون بآخر
الأحداث والأنباء، يبدأون
الكذبة والشائعة، ويصدقونها
كالغرباء، غايتهم أن
تخسر، أن تتعثر، أن تتراجع
ولو خطوة للوراء، خسارتك
ترضي جنونهم، خسارتك
تطفئ أحقادهم.
أصدقاؤك الطيبون··
تسعك قلوبهم حين تضيق
بكَ الحياة، هم إخوة لم
تلدهم أمك، يفزعون إذا
مسك الضر، وتدمع عيونهم
إذا احتبست في عينيك الدموع،
بيتهم بيتكَ، أسراركَ
في خزائنهم الموصدة،
شركاء ذاكرتك وذكرياتك،
إذا رويتَ عن نفسكَ كانوا
في منتصف الرواية، وإذا
وصفت الناس والأمكنة
سكنوا قلب الحكاية، يقاسمونك
التاريخ فرحاً·· وحزناً،
ويقسمون بالله أنكَ الصديق
الصدوق، وتقسم بالله
أنهم الملاذ والسند،
يصدون الأكاذيب عنك،
ويضيئون طريقك فلا ينكسر
ظهركَ، ويكشفون زيف أعدائك
لمن لا يعرفك·
طيبون·· لا يبيعونك
بمال الدنيا، تغادرهم
حيناً من الوقت فلا يتغيرون،
وتقيم بينهم فلا يتذمرون،
تسألهم فيملأون قلبكَ،
أسماؤهم قرينة اسمك،
وأطيافهم تلون روحك بالطمأنينة،
يدفعون عنك الأذى ولو
تأذوا، يرجحون كفة إيمانك
بالصدق والمحبة، ويسألونكَ
ألا يقتلك الحزن حين يكاد
يقتلك الحزن على ما يفعله
الناس في الناس·
خائب
الظن
وقفتُ في موقف الطيران··
ولم أستطع
جهزتُ روحي وجسدي
وقلتُ: أجرب أن أمضي بعيداً
خلف الضوء واللون، وأتبع
العطر حين يرج البدن،
فما طارتْ الروح، وما
ارتفع الجسد، قلتُ: ما
الذي جرى؟ جناحاي ثقيلان،
سقط الريش عنهما، لا يضربان
الهواء كما كانا، ولا
يصعدان بي إذا سرتْ في
الدم فورة الوجد، أنا
الطائر المسكون بالريح
لا أستريح إذا تبدلتْ
أحوالي وتسمّرتْ قدماي
وسقط لساني
وقفتُ في موقف الطيران··
ولم أستطع
كنتُ وحيداً في ركنٍ
قصيّ، في مكان مسائي غارق
بين العتمةِ والضوءِ،
كنتُ كمن قتل أحبابه بيديه
لينجو من محبتهم، فما
ازداد إلا محنة ووحدة،
كنتُ أتابع الطيور على
أشكالها وهي تحلق خفيفةً،
تستبدل أرواحها باللهب
صاعدة في حرائق بهجتها،
تطير في فضاءٍ بلا سقف،
ترقص كما النار حين يعبرها
الهواء، قلتُ: يا لخيبتي،
انكسرتُ وثقلتْ أطرافي،
كل مدينة تركتْ في القلب
رسمها، كل امرأة وضعت
أحمالها في الروح، كل
أخٍ لم تلده أمي أورثني
الفقد والهم، وجه التي
أُنادى باسمها يوم البعث
على وجهي، سمرة أبي قوتي
وضعفي، أشقائي نار دمي،
المحبة ثقيلة، جناحاي
مقيدان كيف أتخفف من أثقالي؟
كيف أصبر على غصة وأستعيد
خفتي؟ متى أتحرر مما صنعتْ
يداي، مما رأتْ عيناي،
ممن مشت إليهم خطاي؟ كيف
أنفلت من جدارٍ بحجم الأرضِ··
وأطير·· أطير، خاب ظني،
خاب ظن الوحيد، الضال،
الغريب، الباكي، المطرودُ
من نعمةِ الاطمئنان،
المشدودُ كقوسٍ ووترٍ،
المنتمي إلى قلقٍ، المأخوذُ
بنظرة عينٍ ورائحة عطرٍ،
المسلوب إرادته إذا رق
وشف وتكلم عن الحب، المجنونُ
بالتجربِة، الحائرُ خلف
هذيانه
أنا الخائبُ ظنه،
ظننتُ أنني سأمضي بلا
أثرٍ، وأنني سأصرخ بلا
صدى، وأن رائحتي ستموت
ورائي، وأن موتي نهايتي،
لا هوية تدل عليّ إلا الفاتحة
وما تيسر من السرد الممل
حين يستعيد الآخرون بعضاً
من سيرتي
وقفتُ في موقف الطيران··
ولم أستطع·
فما حيلتي؟
ما حيلتي وأنا الذي
يخاطب نفسه:
الأرض من تحتك، ومن
فوقك، ومن حولك
أنت الذي اخترتَ
ورضيتَ، لم يجبركَ غيركَ
على ما تضيق به
المحبة ثقيلةٌ،
تخفف ممن تحب، طرتْ وقطعتْ
الشرق والغرب، جربتْ
الذهاب والإياب من غصنٍ
إلى غصنٍ، تذوقتْ الحلو
والمر، نمتْ على حريرٍ
وشوكٍ، أحببت جنونكَ
وفضولكَ، حزنك وبهجتكَ،
أعطيتَ روحكَ لمن يستحق
ومن لا يستحق، وما استرحت
لغير طيرانكَ، أي منفذٍ
تريد؟ أي منقذة تطلبُ،
أي خفةٍ تهوى، وأنتَ·· أنتَ،
كلما وقعتْ امرأة على
جناحيكَ توجستَ وصرختَ
خائفاً من ثقل الأرض
الرجل
بالغليون
في
مشهده الأخير
خرج لي صديقي القديم
من بين الرماد
الرماد الذي جاهدت
طويلاً أن يكون منطفئاً،
غير أنني فشلت في أن أجعله
كومة هادئة، وهبة ريح
صغيرة من رسالة خطية قد
تحول الرماد إلى لهب مشتعل
بالتفاصيل·
هكذا وذات صباح قريب
وجدت الشاعر سماح عبد
الله أمامي حاضراً ببلاغته
وشاعريته ودعاباته في
سطور رسالة أنشرها كاملة
لأن ثمة روحاً جميلة تسكنها:
( الصاحب البعيد
صباح الخير أو مساؤه
يا أخي، أنا أشتاق
إليك، ولا أدري إلى متى
ستظل هناك، كما أنني لا
أرى سبباً مقنعاً لعدم
لقائنا في إجازاتك ولو
لاحتساء الشاي، لمدة
ثلاثة أرباع الساعة أعرف
فيها أخبارك، وأطالع
وجهك المؤرق·
الصاحب البعيد
صباح اليوم تم إعلان
جوائز الدولة، وقد منحوني
جائزة الدولة التشجيعية
في الشعر لهذا العام عن
ديواني (أحوال الحاكي)،
بلغت بهذا منذ ساعتين
فقط عبر التليفون وبين
رنين الهاتف الذي حمل
لي تهاني الأحباب، فوجئت
بتليفون يأتيني من بلدة
تخصصت في إنجاب الشعراء
ورؤساء الجمهورية، لم
يهنئني بالجائزة، لأنه
لم يعرف بعد، ولكنه قال
لي إنك حدثت الناس في مجلة
" المرأة اليوم " عن مجموعة
من الشعراء وإنك ذكرتني
على رأس من ذكرت قلت له
يا أخي، يا سليل البلدة
التي تنجب الشعراء ورؤساء
الجمهورية، أنا في منطقة
لا تأتيها المجلات الفخيمة،
وأكبر مجلة تأتي لها مجلة
" سمير"، هلا قرأت لي ما جاء
عني في " تأويل "·· وكان أن
قرأ·
ومن أخطائه في القراءة
أدركت أنه قد يصبح رئيساً
للجمهورية، لكنه أبداً
لن يصبح شاعراً ومن لهجته
السريعة في القراءة أدركت
أنك مازلت دافئاً، ومن
سرسعة صوته الناشف أدركت
أنني اشتقت إليك، ومحتاج
إلى القعاد معك جداً·
سأقول لك بعضاً من
أخباري:
استطعت، بعد أكثر
من عشرين عاماً في القاهرة
أن أشتري شقة، لدي ثلاثة
أولاد، أعمل مديراً لتحرير
سلسلة كتابات جديدة،
أصدر بين الحين والحين،
ديواناً شعرياً، مهتم
اهتماماً خاصاً بالكتابة
للأطفال، أجلس في المقاهي
أحياناً، أتابع سير الفتيات،
أصحابي قليلون، أحوالي
تصيبها بعض الارتباكات
لكنها تسير، أقرأ كثيراً،
أحلم كثيراً، أعاني كثيراً·
أنتظر صدور ديوان
" الرجل بالغليون في مشهده
الأخير"، أنتظر خطابك
المقبل، أرفق لك واحدة
من قصائدي الأخيرة، أذيل
خطابي بعنواني " علك تحتاجه"
ورقم تليفوني " عله يلزمك
"
خذ كل الحب
سماح عبد الله الأنور)
..........................
هكذا خرج لي من بين
الرماد
كنت أحسب أن الأيام
مضت وأن الأصدقاء القدامى
قد أصبحوا صوراً معلقة
على جدران الذاكرة، وأن
استعادة الذكريات مع
رشفة القهوة ورائحة التبغ
أجمل من عودتهم ثانية
بلحمهم ودمهم، كنت قد
دربت نفسي على هذه الفكرة
وتعايشت معها، لم أقطع
صلاتي بمن كنت أعرفهم
عمداً، لكنني أيضاً لم
أسع إلى استردادهم غصباً
أو تحايلاً على فعل الزمن
ودورته، لأن المسافات
أحياناً تصنع القطيعة
بيننا وبين الآخرين،
ونقبل بها راضين ونغمض
عيوننا عما " هناك "، عما
تركناه خلفنا حتى لو كان
جميلاً، وننفق أيامنا
باحثين عن ملاذات أخرى،
عن بشر آخرين نطمئن إلى
أخوتهم وقلوبهم، وتجرنا
السنوات عبر محطات ليس
كل ما فيها طيباً، ليس
كل ما فيها شريراً وقاسياً،
هي الحياة نتقلب على فراشها
اللين الناعم تارة، والمغطى
بالشوك والحصى تارة أخرى·
لكن هل ننسى؟
هل ننعم بالهدوء؟
هل نغلق أبواب ذاكرتنا
جيداً وراءنا أم أنها
تظل مواربة على ما فات؟
أظنها تظل مواربة
على ما فات، لا نقدر مهما
حاولنا أن ننفصل هكذا
عما نعرفه وعشناه من قبل،
ولا نقدر مهما حاولنا
أن نكون في لحظة أشخاصاً
بلا تاريخ، تبقى الشوارع
لها رائحة لا تنسى، وتبقى
الأماكن لها حضور لا يغيب،
وتبقى تفاصيل البشر الغائبين
مثل رؤوس دبابيس حادة
مغروسة في القلب·
ولم يتركني الصديق
سماح عبد الله ظامئاً
إلى جديده الشعري، وأرفق
برسالته قصيدة فتحت قلبي
على الصباحات الندية،
على موجات بحر أزرق، على
أيام كانت الكتابة فيها
عن الحب ماءنا وخبزنا،
فيما لا يزال هو ذاته قادراً
على العبور من " نفق ضيق"
اسمه الحياة متشحاً بالأناشيد··
والبرتقال·· والغيم.
في
حضرة الأستاذ (1)
ذلك
اليوم·· تلك التفاصيل
دون مناسبة تذكرت
ذلك اليوم البعيد، ذلك
اليوم الذي تفصلني الآن
عنه سنوات طويلة محمّلة
بالكثير من الأماكن والوجوه
والذكريات، والآن، وأنا
أقف في شرفة تطل على ما
فات، رأيتني أستعيد تفاصيل
اليوم الذي ذهبت فيه إلى
بيت الكاتب الراحل أحمد
بهاء الدين، كان وقتها
لا يزال على قيد الحياة،
راقداً في فراشه بعد إصابته
بمرض غريب في المخ منعه
من الكتابة ومن تفاصيل
الحياة اليومية ومن الكلام
إلا قليلاً
كنت واحداً من كتيبة
من الصحفيين الذين جنّدتهم
الأستاذة سناء البيسي
رئيسة تحرير مجلة " نصف
الدنيا" حينها لإعداد ملف خاص عن أحمد
بهاء الدين بمناسبة عيد
ميلاده التاسع والستين،
كان احتفاءً وعرفاناً
لازمين لضمير كاتب عربي
ظل طوال مسيرته وفياً
لعروبته وقضايا أمته،
كنت أعلم أن مرضه الغريب
الذي احتار فيه الأطباء
سيحول بيني وبين مقابلته،
لأن ذلك لم يعد ممكناً
على الإطلاق، لكنني استسلمت
لاحتمال حدوث ما أتمناه
دون مناسبة استعدت
تفاصيل ما جرى، وإن كنت
مقتنعاً بأن الطيران
إلى الخلف، والتحليق
في فضاءات مضت هو " حالة
استرداد جائزة "، ويكفي
القلب أن يمتلئ بالحنين
لتصبح المناسبة حاضرة
بكل شروطها، وهذا ما كتبته
في ذلك اليوم عن ذلك اليوم
لم تبق سوى دقائق،
هكذا تشير عقارب الساعات
في الأيدي، وعلى الحوائط،
وفي الميادين، دقائق
ستمر مثل ملايين الثواني،
والدقائق التي مرت من
قبل، لكنها في ذلك اليوم
كانت اليوم تختلف، ثمة
رغبة تكاد تكتمل حين تتحرك
السـيــارة في اتجاه
مــنزل " الأستاذ"·
عندي رغبة جارفة
في احتواء المكان، وإيقاف
الزمن داخله، هي رغبة
في الإحاطة بالعالم الخاص
للكاتب الكبير·· وربما
اكتشاف العلاقة بين المكان،
وصاحبه، وتأثير كل منهما
في الآخر·
هذه الدقائق التي
سبقت الزيارة لم تكن هامشاً
بلا معنى، لم تكن مساحة
محايدة، بل مساحة مشحونة
بالانتظار، كانت أيضاً
جزءاً من الزيارة ذاتها·
لم أكن جاهزاً يوم
الزيارة سوى للزيارة
نفسها، وفي الساعة الثانية
عشرة ظهر ذلك اليوم البعيد
تحركت سيارة الأستاذة
نرمين القويسني وعلى
المقعد الأمامي جلس المصور
الفنان أنطون ألبير،
وجلست في المقعد الخلفي
صامتاً، ومأخوذاً بحوار
داخلي، ومشاعر متناقضة
من الفرح، والترقب، والانتظار·
كنت أفيق بين لحظة
وأخرى لأتابع ذكريات
نرمين القويسني التي
عملت سكرتيرة لأحمد بهاء
الدين في بدء حياتها العملية،
كانت تروي باعتزاز عن
سيارتها التي جلس فيها
من قبل توفيق الحكيم،
وإحسان عبد القدوس، ويوسف
إدريس، وكانت تنتقل في
حكاياتها إلى سنوات عملها
مع أحمد بهاء الدين فتقص
ما لا نعرفه، وتروي مداعبات
الكبار وقفشاتهم·
وهكذا أطبقت السيارة
على مشاعري، وبدت هي الأخرى
جزءاً من أيام أجري خلفها،
وأتتبعها، حتى السيارة
أصبحت اليوم مكاناً يجب
زيارته·· وأنا الآن داخلها
أتحسس المقعد باحثاً
عن أثرٍ ما·· عن رائحةٍ لم
تصلها يد الغياب المرير.
لم أشعر خلال وجودي
في السيارة بأنها تتحرك
إلى الأمام، إلى مكان
قريب سوف نصله خلال دقائق،
أحسست بأنني داخل " عربة
الزمن"، فهذه السيارة
تتحرك إلى الخلف، تعود
إلى الماضي، وفي لحظة
ظننت أنها حيلة مقصودة
لأخذي إلى زمن أحبه، أقول
" حيلة " وأعني " ورطتي" حين
أجد نفسي فجأة جالساً
إلى: توفيق الحكيم ويوسف
إدريس، وإحسان عبد القدوس،
وقريباً من " أحمد بهاء
الدين" في سنوات شبابه·
ودون قصد وجدتني
" ألعب " مع " عربة الزمن "،
هي تشدني للخلف، وتنطلق
للوراء، وأنا أجذب نفسي
للأمام، وأتحرك بمشاعري
إلى منزل " الأستاذ " بسرعة
مضاعفة·
وأسلمت روحي لطائر
الخيال الخرافي الذي
حملني إلى بيت أحمد بهاء
الدين، وقد شطح الخيال
بي حتى رأيته يستقبلنا
بابتسامة مشرقة، ويفيض
علينا من كرمه، وفكره
وتطرفت في زيارتي الخيالية،
وتوقعاتي لأقصى حد، ولم
أستيقظ إلا على صوت يقول:
" هذا هو البيت " ولم يكن هو
البيت فقد تغيرت، وتشابهت
معالم البيوت، والشوارع،
ولا أحد يعرف أحمد بهاء
الدين هنا، وبالمصادفة
تحول الخطأ في تحديد الشارع
إلى صدمة قاسية لأن خمسة
أشخاص هزوا أكتافهم عندما
سألنا عن " الأستاذ "، هزوا
أكتافهم، ومضوا في طريقهم،
وأحسسنا لحظتها بأننا
نغرق بالفعل في محيط هادر
من الثلج، والغريب أننا
لم نبتلع صدمتنا، ونصمت
بل قلنا في نَفَس واحد:
لو سألنا عن لاعب كرة أو
ممثل فاشل فإن ألف شخص
سيدلنا عليه!
اقتنعنا في النهاية
بأن المقارنة لا تصلح،
وبعد عشر دقائق تقريباً
من البحث عثرنا على الشارع،
والبيت، وتنفسنا الصعداء
داخل المصعد، وزاد ارتباكي
عندما وقفنا أمام صمت
الباب، لم أشعر بأنه مجرد
باب شقة مكتوب عليه اسم
" أحمد بهاء الدين" أحسست
أنه " باب العالم " أو " باب
إلى العالم كله"، أقف الآن
إذن أمام باب مُغلق، وخلفه
تاريخ كامل، سأحتاج إلى
ألف عين لأرى كما يجب،
وألف عقل لأفهم، وأرصد
كما يجب، وأحتاج كذلك
إلى ملايين الأصابع لأتحسس
مكتبه، وأوراقه، وكتبه،
وقبل أن يُفتح الباب،
كانت حواسي كلها في حالة
استعداد قصوى·
في حضرة
الأستاذ (2)
·· نائم في السرير
عندما استقبلتنا
السيدة ديزي زوجة الكاتب
الكبير بسحابة ممطرة
من الود والترحاب اكتملت
تماماً الصورة العائلية
لأسرة " الأستاذ "، خاصة
حين انضمت إلى الجلسة
ابنته ليلى الدبلوماسية
في وزارة الخارجية، ثم
بعد قليل حضر زوجــها
الدبلوماسي أمجد عبد
الغفار·
دخول شقة أحمد بهاء
الدين يملأ مشاعرك بشحنة
هائلة من الارتباك، وبالذات
إذا كنت قد انتظرت هذه
اللحظة طويلاً، لم نجلس
في الصالون في مدخل الشقة،
وإنما استقر بنا الحال
في غرفة داخلية وسيعة
أشبه بالبهو، في بدايتها
صالون كلاسيكي، وفي نهايتها
صالون عربي، بالإضافة
إلى مكتبتين صغيرتين
اشتراهما أحمد بهاء الدين
من منطقة " العطارين"
منذ سنوات طويلة مضت،
وفي المنتصف يستقر مكتب
صغير أنيق، مكتب خشبي
صامت، ولعله حزين، هذا
هو مكتب أحمد بهاء الدين
وبجواره ماكينة تصوير
أوراق·
كان عليّ أن أجول
ببصري طويلاً في جدران
الشقة لأشاهد كل هذه اللوحات
المدهشة لكبار الفنانين،
كأنني في متحف يجمع بين
تيارات، ومدارس فنية
مختلفة، هذه لوحة لتحية
حليم، ولوحة لحسن سليمان،
وثالثة لآدم حنين، ورابعة
لجاذبية سري، وخامسة
لإنجي أفلاطون، وسادسة
·· وسابعة، وفي الشقة تشدك
مشاهد التماثيل الصغيرة
والأنتيكات، على المكتبة
الأولى تمثال غاندي،
على رف المكتبة الثانية
تمثال دون كيشوت·· وفجأة
أنهيت متابعة المكان
بالسؤال
سألت مدام ديزي عن
الكاتب الكبير·· عن صحته
وأحواله؟
فأجابت في هدوء: بخير!
طرحت عليها سؤالاً
ثانياً بفضول غريب: أين
هو الآن؟
تمسكت هي باختصارها
البليغ: نائم في السرير!
وكأنها قرأت سؤالاً
ثالثاً يرقص حائراً في
صدري، فأضافت: لا يمكن
مقابلته·
وخيم صمت له رائحة
الغياب، والفقد وطعم
الحنين، صمت لا يمكن وصفه
قاس، لا قدرة لأحد على
احتماله أو مقاومته،
ترى ماذا يحدث الآن لو
قمت مندفعاً وفتحت حجرته
التي راقبت بابها منذ
دخولي الشقة، وحتى انتهاء
الزيارة؟ ماذا يحدث لي
لو أنني غافلت كل من حولي،
وتسللت كاللص على أطراف
أصابعي، وفتحت الباب
ورأيته في السرير؟ لن
أوقظه·· سأملأ صدري من هواء
غرفته، سألمس غطاءه وربما
جبهته، سأقترب منه في
حذر، وخوف، ورهبة مثل
اقتراب تلميذ صغير من
أستاذ جليل، سأهمس بصوت
خفيض: ألف سلامة يا أستاذ
بهاء!
عدت من خواطري إلى
حالة الصمت التي أصابتنا
جميعاً، هربت منها بإعلان
رغبتي في اكتشاف مكتبته،
واخترت بعض عناوين الكتب
التي تستند إلى بعضها
في سكون: ملفات السويس
لمحمد حسنين هيكل، ومعالم
تاريخ الإنسانية لـ" هـ·
ج· ويلز" ، وفي منزل
الوحي للدكتور محمد حسنين
هيكل، وتاريخ الجبرتي
، وتاريخ مدينة دمشق للحافظ
بن عساكر، والحروب الصليبية
لحسين أحمد أمين ، وتاريخ
شعوب وادي النيل في القرن
التاسع عشر، والموسوعة
الفلسطينية·
تقول مدام ديزي: لقد
تزوجت أحمد بهاء الدين
عام 1959 في شقة غرفة وصالة، ثم انتقلنا إلى
هذه الشقة عام 1960، وقد عرفته
بعد موقف غريب، فقد كان
رئيساً لتحرير مجلة " صباح
الخير" وفي أحد الأعداد
كتب مقالاً عن معسكرات
الاعتقال في الاتحاد
السوفييتي، واستفزني
المقال بصورة دفعتني
لأن أبعث إليه برسالة
أتهمه فيها بأنه عميل
أمريكي يحاول تشويه الاتحاد
السوفيتي، وذكرت في نهاية
الرسالة اسمي والكلية
التي أدرس فيها، ونسيت
الأمر تماماً،
حتى فوجئت ذات يوم بخطاب
منه على عنواني في الجامعة
يقول لي فيه إنه من الأفضل
أن أذهب إليه لمناقشته
وجهاً لوجه بدلاً من الاتهام
القاسي الذي ألصقته به،
ولم أذهب لمقابلته، ومضت
الأيام حتى رأيته مصادفة
يدخل إحدى المكتبات في
شارع قصر النيل، وكنت
لحظتها جالسة إلى صديقتي
صاحبة المكتبة، فأشارت
إليه وهي تقول: هذا هو أحمد
بهاء الدين، وبالفعل
تعارفنا في ذلك اليوم·
- هل أقنعك بما كتبه
في المقال؟
- تجيب مدام ديزي: من يومها،
وهو يقنعني بوجهة نظره،
وتضيف: كان يحرص دائماً
عندما يسافر خارج مصر
على الكتابة إليّ، فكلما
ذهب إلى بلد أرسل خطاباً،
لم تكن كلمات خطاباته
سطحية، حتى في الكتابة
عن مشاعره كان بليغاً
وحساساً، وأذكر أن له
رأياً مهماً في المرأة،
وهو أنها لا بد أن تكون
ذات شخصية متكاملة، وأن
تكون قوية، وكان لديه
اقتناع كامل بأن ما يكتبه
وينادي به هو ما يعيشه
بالفعل، أو ما يستطيع
أن يفعله، ويعيشه، فإذا
كتب على سبيل المثال عن
المرأة وحقوقها فإنه
على استعداد لأن يعطي
هذه الحقوق لزوجته، لقد
كان صادقاً مع نفسه، ومع
الآخرين، ولم يعرف الأقنعة
أبداً في حياته، ولم يكتب
سطراً واحداً لا يؤمن
به، وأعتقد أن الناس أحبوا
بهاء لإحساسهم العميق
والصادق بأن هذا الكاتب
لم ·· ولا يضحك عليهم·
توقفت مدام ديزي عن
الكلام
وخيم الصمت مرة أخرى
على جلستنا، وإن كانت
الأسئلة لا تزال تضج في
صدري·· أذكر أن ذلك اليوم
لم يكن يوماً مكرراً،
ربما كان جميلاً، وحزيناً
في آن واحد، لكنه أبداً
لم يكن ثقيلاً، في تلك
اللحظة كان الثقل الوحيد
هو هذا الهم الذي يصدره
مرض الأستاذ، هذه الخلايا
الصغيرة في المخ التي
تموت ولا تتجدد بلا سبب··
كانت التفاصيل كثيرة،
والحكايات بلا نهاية·
في
حضرة الأستاذ (3)
··
الذي يضحك ·· ولا يتألم
ما زلت في بيت أحمد
بهاء الدين··
ما زلت مأخوذاً بما
أراه·· وأسمعه من زوجته
السيدة " ديزي" وابنته " ليلى"
ما زلت راغباً في
أن أراه ولو لثانية واحدة
وهو راقد على فراش المرض
ما زلت أذكر تفاصيل
اللحظات التي عشتها هناك
مرة أخرى عدت لأواجه
صراعي مع باب الحجرة التي
يرقد خلفها الكاتب الكبير،
إنه باب مثل ملايين الأبواب،
تكفي يد واحدة لفتحه·· يدٌ
واحدةٌ تدير المقبض،
لكن اليد تعجز عن تحقيق
الحلم، والباب الصامت
يومئ، ويكاد يشير، وينطق:
افعلها··
ولم أفعلها احتراماً
لحقيقة لا مفر منها، ( مقابلته
ممنوعة )، لكن ماذا يفعل
الآن؟ هل استيقظ من نومه؟
هل قال شيئاً أو طلب من
الممرض شيئاً ما؟ ما الذي
يحدث خلف هذا الباب؟
وصارحت زوجته بهذه
الأسئلة، فأجابت مدام
ديزي: يستيقظ عادة كل يوم
في التاسعة صباحاً، يدخل
إليه الممرض ليقدم له
الإفطار، وهو عبارة عن
فول مصفّى، وكوب لبن به
دواء مقوٍ، ثم كمية أدوية
مختلفة، وإبرة أنسولين،
بعد ذلك يدخل الحمام ويخرج
ليجلس في البلكونة حتى
الساعة الـ12 ظهراً، وفي
هذه الفترة ندير له الكاسيت
وبالتحديد الموسيقى،
وأغنيات عبد الوهاب وعبد
الحليم القديمة، ويمكن
أن يقرأ مانشيتات الصحف،
ونحن نحاول إبعاده عن
أخبار الكوارث وفي الساعة
الثانية نجهز له الغداء
المكوّن من صدور الفراخ
أحياناً، والخضار، وهو
أكل مهروس ثم كوب لبن أو
عصير برتقال، وفي الساعة
الرابعة يتناول " شوية
مهلبية "، أما العشاء ففي
الساعة الثامنة مساء·
فترة مشاهدته للتليفزيون
تبدأ من الرابعة وحتى
الثامنة مساء، وكما قلت
فإن مشاهدة الكوارث أو
الاستماع إلى الأخبار
المقبضة من الممنوعات
التي نبعده عنها، لذلك
نختار له المسلسلات والأفلام
الهادئة، وأذكر أنه استمع
أثناء غزو العراق للكويت
إلى الأخبار فتأثر كثيراً،
وقال: ليه·· ليه؟
- هل شعر بالزلزال
الذي وقع مؤخراً؟
- لا··
- هل يضحك؟
- وتجيب مدام
ديزي بهدوء، نعم·
- وأسألها: هل
تتحدثين معه، هل يرد عليك؟
- وبالهدوء نفسه
تقول مدام ديزي: أقول له
صباح الخير يا بهاء·· وإذا
لم يأكل أسأله عن السبب
فيقول: أسناني·· ثم يسأل:
فين ليلى، فين زياد؟ ويسأل
أيضاً عن أخواته، وقد
توفيت أخته الكبيرة،
ولم نخبره·
- ألم يسأل عن
مرضه، عن حالته؟
- لا··
وتعود مدام ديزي
للتحدث عن تفاصيل حياة
أحمد بهاء الدين مع المرض:
بعد أن يتناول العشاء
في الثامنة مساء ندير
له الكاسيت مرة أخرى،
لكن بأغنيات أم كلثوم،
ثم ينام، وخلال كل هذا
لا يفارقه المرض، ولا
نغفل نحن عنه لحظة واحدة·
- والأمل في العلاج··؟
- تقول مدام ديزي:
آخر مرة كنا في أمريكا
قال لي الأطباء: إن كل ما
نستطيع القيام به هو أن
يرتاح فقط·· وأحمد الله
أنه لا يتألم!
وبدا أنها هي التي
تتألم الآن لذلك، ابتلعت
بقية أسئلتي، وعلقت بصري
بتمثال غاندي،
وأنقذت الزميلة نرمين
القويسني الموقف بسؤال
عن حب أحمد بهاء الدين
للرسم، وقد جاء السؤال
في وقته ليُخرج مدام ديزي
من أحزانها التي ملأت
عينيها·· وحين تكلمت قالت:
بهاء كان يتمنى أن يكون
رساماً·· كان ( غاوي رسم )،
وفي إحدى المرات كنا في
الإسكندرية ( وطلعت معاه
) أن يتفرغ للرسم، وبالفعل
اشترينا كل ما يلزمه من
أدوات وألوان·· وبدأ يرسم
ثم توقف·
وقالت مدام ديزي:
بهاء·· نائم الآن في السرير·
وقالت: بهاء·· خجول
عند مدحه، لكنه ليس متحفظاً·
وقالت: بهاء لا يحب
البهرجة·
وقالت: بهاء·· يهتم
بالأقلام " الشيك"
وقالت: لم تتغير علاقتي
به حتى اليوم·
وقالت: ليلى أخذت
عن أبيها صفات كثيرة مثل
الذكاء، وطول البال،
والصبر على الناس، والهدوء،
وعدم العنف في الكلام·
قالت مدام ديزي،
لكن عبارة واحدة ظلت ترن
حولنا طوال زمن الزيارة،
عبارة واحدة- من بين ما
قالته- تصلح لأن تكون مُفَتَتَحاً
لأي حديث عن الكاتب الكبير
أحمد بهاء الدين، فهي
عبارة تؤرخ للحضور، والغياب···
( بهاء··· نائم الآن خلف هذا
الباب )
نحن الآن نتقاسم
هواء الشقة معاً، الآن
تمر نسمة هواء من أمامنا،
وتدخل صدورنا ثم تخرج
محملة برائحتنا، وربما
تتسلل إليه في غرفته،
ربما تدخل نسمة الهواء
ذاتها إلى صدره فتقول
له: إننا هنا·· بالقرب منه··
جئنا من أجله·· جئنا بملايين
الكلمات، وبملايين المشاعر
الصامتة التي سنضعها
في كل مكان بالشقة·· في كل
مكان جلس أو وقف أو نام
فيه·
نحن هنا بالقرب منك··
فهل تسمع حديثنا عنك؟
كان هذا السؤال الصامت
آخر ما سألته وأنا أغادر
البيت مسكوناً بالحزن
والأسى، وبعدها، بعد
أن مرت عليه شهور في سريره··
رحل أحمد بهاء الدين،
تاركاً ذلك اليوم الذي
كنت فيه قريباً منه، يوماً
لا أقدر على نسيانه·