Kamal Abdul Hameed

سيرة الحنين والفوضى
 تأويل - تحت النشر

1.jpg

 

 

الماغوط.. آخر طفل في العالم

انتظروني قليلاً، بضع سنوات لأتخلص من دموعي في أقرب مقهى، وسأعود بعدها لأراقبكم من جلستي الجانبية، وأضحك كلص سرق زهرة فان جوخ، ليسدد ديونه العائلية. انتظروني بما يكفي لأكون جاهزاً لتفاهاتنا الكبيرة، تفاهاتنا التي نصنعها سوياً على رائحة التبغ والقهوة، سأتحدث معكم عن النساء والخيانات القصيرة، والقبلات المؤجلة كذنوب طيبة، والحروب الصغيرة تحت الطاولات، وخلف الأبواب ، وسأكون – أعدكم- كما تعرفونني ، أنفق راتبي في أول أسبوع من الشهر، مطمئناً لثلاجتي المملوءة بالأجبان، والسجائر ومكعبات الثلج

انتظروني قليلاً، سأخطف قدمي إلى بائعة الزهور أمام مستشفى النور،  سأترك لها عيني أمانة مقابل وردتين، أبعث بهما إلى قبر آخر طفل في العالم، ذلك الذي مات في الثانية والسبعين مستغيثاً بالسيجارة والهاتف

انتظروني قليلاً، بضع سنوات سأمشيها حافياً إلى بيروت ودمشق،  سأودع صديقاتي البريئات، وأهاتف أمي كاذباً: "سأهاجر زمناً يا أماه إلى الشام"،  فتسألني عن البلاد التي لم تسمع بها نفطاً أو رزقاً يعمر البيت القروي، سأكذب حتى لا تموت بخوفها إذا أخبرتها بغايتي: " سأضع وردتين على قبر رجل حزين..  و أعود "

انتظروني قليلاً ، سأعود إليكم بحكايات جديدة  عن رجل حرق رئتيه في شتاء عربي طويل، سأحدثكم عن حزنه الأبدي في ضوء القمر، عن وصاياه، و الينابيع التي أغرقتني تحت نخلة البيت القديم،  عن كتابي الأول المخبوء في حقيبة الدرس، وعن المطر، والطيور، والبلاد " التي تسير كالريح إلى الوراء"

 

انتظروني قليلاً حتى أعود ، لأن الرجل الذي مات بسيجارته  أوصى لي بالأسى والحزن ، منذ دسست كتابه أسفل السرير كيلا يشدني أبى من أذني، حين يسألني عن واجبي المدرسي،فأرتعش كطيوره المهاجرة، طيوره التي أقامت له قبراً على شجر بيروت ودمشق.

 

انتظروني قليلاً، حتى إذا أخذتني الدموع إلى جواره حارساً جسده من العتمة والثعابين، لا تتعقبوا بكائي هذه المرة،   ولا تظنوا بي السوء،

 و لا تبخلوا على روحه وروحي بفاتحتين

تعرفون اسمي..

 وهذا اسمه كيلا لا يخطئه ثواب الفاتحة:

 اسمه " محمد الماغوط ".

 

 

جنة الياء والكاف

 

إلى ياسر الزيات

 

- ما الذي بيننا ؟

- بيننا الضوء الذي نضحك فيه على الريح،

والأشباح،والفتنة النائمة

بيننا الفقر والستر ،والقطارات ،وآخر ما قاله الجنوبي عن الحقيقة ،

والأوجه الغائبة..

بيننا الأرض والنهر ،والعشب الذي لا يستعيض بالرمل عن الماء.

بيننا المقهى والشارع والناصيةوالمحبة العمياء

بيننا الياء والكاف،وما شبه لهم أنه القطيعة والجفاف

 

بيننا أبوظبي – القاهرة – سوهاج ، والبستان الذي أغلقته السلطات يوماً بلا ذنب ، وصديقنا الذي كتب قصيدة واحدة .. ومات

 

بيننا البكاء على من لا يغيبون إلا بالسرطان والحمى ، والأمهات اللاتي يقرأن التعاويذ قبل النوم ، والأخوة الذين نرتب أحوالهم بالحيلة والدعاء

بيننا يا ياسر هذا الهواء،الرئة السوداء ،الأنفاس المقطوعة خلف لقمة العيش، السؤال عن نسبة الرتابة في الحب والموت،وما راواه لسان العرب بلاسندعن مجد الصعاليك والشعراء.

 

بيننا ما قالته العجائز حول مواقد الخبز والشتاء، ما روته الجدات الوحيدات عن مهابة الأجداد في الفقر والثأر ، وخطواتهم المباركة على أول الطريق آخر الليل ، وحيواناتهم الأليفة في حظائر الذرة والقمح ، والريح الشمالية المسكونة بالجن والحوريات..

 

بيننا الفأس والمنجل ، دروس العوم الفاشلة في الترع القديمة ، شجر الليمون العابر بصمت بين بيت وبيت ، أكواب الشاي الثقيل المجهز قبل الضيف بعام ، والحلوى التي لم نعرف طعمها قبل الأعياد

 

بيننا يا ياسر  ما لا يعاد..

القرى ، المدن ،  شهادة الميلاد ، محل الإقامة ، محل البهجة والخيبة ، ما عرفناه وخسرناه ، ما اقتسمناه من المال والوقت ، وما خطونا خلفه من الوهم والأكاذيب والجنيات

 

بيننا ما قلته لك يوماً عن الأباء المتبوعين بالشياطين والألهة :  أدونيس ، أنسي الحاج ، و الماغوط الذي يشرب دموعه المعتقة في صحة الوطن والأحفاد الضائعين ..

بيننا ما قلته لي يوماً عن عن الأباء المتبوعين بالموسيقى والألهة : الجنوبي ، الأخضر بن يوسف ،  مطر السياب ، والقاسم الذي يهبط بظله على جهة من الشعر ...

 

بيننا هذا الأيقاع الشهي ، النثر المكشوف على النوافذ، والمكائد ، والأبواب التي نخمن مفاتيحها في الصمت والريبة ، الجنون الذي يحسبه الأخرون مبرراً لتناول القهوة والمهدئات ، الهذيان الذي يجر أعناقنا كالعبيد ، فنجرح أول الشعر بأول الخوف والموت.

بيننا المحبة التي لا يعرف سرها غير من يغلق عينيه على صورة الأخ الوحيد، لا يعرف سرها غير الأنبياء في المحنة والمآزق ، هكذا تتمزق روحينا دون أن نجد مكاناً جاهزاً للولادة من جديد..

بيننا ثقل العائلة ، ما تكلمنا فيه ليلة خلت المدينة من البهجة ، ونام السائقون مبكراً ، لأن الهامشيين لا يطيقون السهر حتى يجمعون الحسرة أمام الفنادق والبارات

بيننا ما لم يعرفه صائدو الحكايات

 

خذ بيدي..

أشعل لي سيجارة لأن يدي مسروقتان في العتمة

خذ نفساً عميقاً حتى آخر  رئتيك

لأن رئتي مغلقتان لأجل غير مسمى

دخن لي ولك سيجارة في كل مرة

لأن فمي في إجازة سنوية طارئة

خذ بيدي

لم يبق لي سوى عينين في رأسي

وجسدي من زجاج

 

 

- ما الذي بيننا غير هذا الكلام ؟

- بيننا الضوء الذي نضحك فيه على الفتنة النائمة

الضوء الذي يلقى علينا كل هذا السلام

   

 

بيننا يا ياسر .. هذه الحياة

.. هذه المحبة

والقبر الذي يصنعه الأخرون بعناية

واحتراف

بيننا كل هذه الضفاف

بيننا جنة الياء.. والكاف

 

 

 

 

 

عفاريت جرجس شكري

  

لا أحتاج إلى كثير من الجهد لأكتب عن جرجس شكري، كما لا أحتاج إلى استدعاء التوتر لأقتنص ومضة ضوء عن الحياة التي جمعتنا يوماً تحت ظلال النخيل العالي في الجامعة.

كان جرجس شكري يخطو خطواته الأولى في الحرم الجامعي، طالباً مسكوناً بالعفاريت، وكنا – ياسر الزيات وعبد الناصر هلال وكاتب هذه السطور – قد سبقناه بعامين تحت ضرورة السن، فوجد جرجس شكري في جماعة الشعر التي كنا نحمله شعلتها ملاذاً ورحابة، لا ليتخلص من عفاريته، بل ليمنحها فرصة نادرة لتتكاثر في روحه القلقة.

ولأننا بشكل أو آخر، كنا شبه مجانين بما نقرأه ونجربه حياة وكتابة، تبع كل منا عفاريته إلى حيث قادته، والعفاريت في طبيعتها الشعرية لا تتشابه ولا تتناسخ إلا قليلاً، وهي إن وقعت في هذا الفخ إنما تقع من طولها لأن صاحبها وحامل سرها لم يعطها ما يلزمها من الوهج والجنون.

وفعل جرجس شكري فعلتها..

ربى عفاريت الشعر بعناية ودأب

منحها وقته ودمه، وجرب أن يعطيها من روحه ما يجعلها تبدو مسكونة به لا مسكون بها، فهي التي وجدت فيه " عفرتة" مغايرة، وسخرية سوداء، وبساطة خادعة أشبه بسطح محيط في ليل مظلم، تظنه بساط رائق من الماء، فإذا دخلته – غير واع- التبس عليك كل شيء، وغرقت فيه دون أن تجد حيلة للخروج منه، وأظن على من يريد الاقتراب من محيطات جرجس شكري أن يحترس بما يكفي، أن يتزود أولاً بقدر كاف واحتياطي من الأوكسجين، وألا يغامر اعتماداً على محبة القراءة لقتل أوقات الفراغ:

( يقضي ليله في معالجة أفعال

اعتل أولها أو حذف آخرها

ويفضح من جاء مستترا.

جيرانه يشكون الضجيج الذي يملأ البيت

حين يبدأ في تدريب أفعاله

على تأدية المعنى )

هذه الشاعر قادر على تدريبنا أيضاً لنتبع جنونه، وعفاريته التي نضجت الآن وبعد أكثر من عشرين عاماً عندما رأيته يحملها بين عينيه وكلماته التي طالما أرهقت جسده النحيل بالسؤال والتجريب. لقد صنع نفسه، ودفع- حتماً - ضريبة قاسية ليصبح ما هو عليه الآن، وأنا لا أقف عادة أمام الاتهامات الجاهزة التي يدخرها البعض لأوقات الحسد والحقد، فنقول عن هذا أنه الفتى المدلل للمراكز الثقافية الأجنبية، ونقول عن ذاك إنه يروج لبضاعته بالجرأة والصدمات التي ترضي أصحاب المزاج " الآخر "، لقد هلكنا أو نكاد من أصحاب نظرية المؤامرة، الجميع يتآمر علينا، ولو اكتشفوا بعد عام أو مائة عام أن هناك بشراً، أو مخلوقات على كوكب المريخ، لأعتقدنا جازمين أن نفراً من أهل المريخ يجهزون مائدة عامرة بالمؤامرات لأجل ثقافتنا وهويتنا، إنها بصورة أو أخرى واقتباساً من عنوان مدهش لجرجس شكري أقول إن كل هذا أشبه ب( ضرورة المؤامرة في المسرحية ) ، لأن فكرة المؤامرة هي الأسهل ، ، وهي الضرورة التي تنقذ الفاشلين  أمام أنفسهم وأمام الآخرين من السؤال والتقييم .

أقول هذا لا لأقدم مدخلاً لتبرئة جرجس شكري من تهمة زائفة، فهو أقدر مني على الرد وتفنيد اتهامات الحسد والحقد، لكنني هنا بحكم أشياء كثيرة – وبعيداً عن الصداقة – أقدم شهادة متواضعة عن شاعر حقيقي في زمن لا حقيقة فيه غير الأسى واليأس.

قدم جرجس شكري أكثر من مجموعة شعرية منها ( رجل طيب يكلم نفسه ) ، و ( ضرورة الكلب في المسرحية ) و ( الأيدي عطلة رسمية ) ، وعلينا هنا أن نرى عناوينه ، وأن نتوقف أمامها كما نتوقف أمام ومض غير متوقع ، مدهش وقاس ، لأن السخرية المبطنة حفنة دبابيس حادة في الحلق:

( ومن ناحية ومن ناحيةأخرى                                                                              أعرف أن الأشياء تسقط ولا تموت
فأحيانا أطلق لحيتي وأقتني كلبا

قاصدا شوارع بعينها
حيث هناك
في أخر الفراغ
قهوتي، بيت أمي
فرحة أقلامي الملونة
وأنا أتثاءب أمام الكتب
غالبا ما يحدث هذا
حين أفقد أشيائي
في صباح ربما مختلف
وأحاول تغيير العالم . )

نجح جرجس شكري في أن يسلك طريقاً وعراً، وأن يأخذ مكانه في قطار قصيدة النثر، لم يقنع بالجلوس على مقعد ثابت ومريح، ولم تقبل عفاريته الجميلة أن يقطع تذكرة مكررة، جنون جرجس شكري هيئ له يوماً قبل أكثر من عشرين عاماً أن يقفز في القطار ‘ هكذا دون أي تذاكر أو حقائب، وهاهو الآن بعد أن مارس الهروب كثيراً من محصل التذاكر العجوز، هاهو الآن يثبت أن الذين وقفوا في الطابور يموتون بلا أثر، والذين اختاروا الاحتراق ليكونوا طاقة لعربة التجريب يصبحون كجرجس شكري " رجلاً طيباً يكلم نفسه "، فنحلم أن يديم الله له هذيانه أبداً.

 

 

أبو الأيتام

 

ورطني رئيس التحرير يوماً في محبة هذا الرجل·

لم أكن أعرفه عن قرب، كنت واحداً ممن يقرأون له ويتابعونه إذا صادف ورأيته على قناة فضائية يعلق أو يروي أو يستفز محاوره، حتى وجدتني ذات مساء جالساً إليه وجهاً لوجه مسكوناً بجملة واحدة قادتني إلى معرفته، جملة واحدة قالها لي رئيس التحرير: اذهب إليه وافتح خزائن ذاكرته، فإذا بي أتورط في محبته·

لا تستطيع مهما حاولت أن تكون محايداً، ربما تنجح إذا كنت مهنياً محترفاً أن تضع مشاعرك جانباً وأنت تحاوره، تستفزه كما يستفز هو الآخرين، وتحاصره بالأسئلة، وتنبش في أسراره وخباياه العميقة، وتشجعه - بدهاء طيب - على أن يذكر الأماكن والأسماء دون الهروب إلى صيغة (المبني للمجهول)، ربما تقدر أن تملأ الدلو كاملاً من بئره مرة بعد أخرى، لكنه لا ينضب وأنت لا تكتفي، فثمة أشياء لم يقلها دائماً، وثمة وقائع لم يذكرها دائماً، فهناك دائماً ما لم تصل إليه، وبئره عميقة إلى حد مخيف·

لا تستطيع مهما حاولت أن تقاوم دهشتك أمامه·· دهشتك مما يحمله هذا الرجل على كتفيه من تاريخ شخصي يتقاطع مع أحداث وتواريخ كبرى سياسياً وثقافياً وفنياً، ودقيقة من السرد بعد أخرى تجد نفسك مأخوذاً بما يقول،  وأنت معلق بطريقته في الحكي كأنه يمسك بك من رقبتك ومن ثم عينيك وأذنيك فلا تستطيع أن تدير وجهك وحواسك بعيداً عن مجاله المغناطيسي، تسمع وتضحك وتدمع عيناك وهو يروي عن هذا وذاك، عن هذه وتلك، وعليك أن تحصي خلفه أسماء من عرفهم وصادقهم وحاورهم وعاش معهم: بدر شاكر السياب، زكي طليمات، العقاد، طه حسين، محمد عبد الوهاب، أم كلثوم، عبد الحليم، فريد الأطرش، محمود المليجي، عبد الوارث عسر، يحيى حقي، وغيرهم ممن تضيق بهم هذه المساحة، وهو لا يكتفي بذكرياته عن أعلام السياسة والثقافة والفن، فلديه خزائن معبأة عن آخرها بحكايات ونوادر عن المهمشين في المدن الكثيرة التي عاش فيها وأحبها، وسيكون لك ألف عذر لو أنك - بدايةً - لم تصدقه، وقلت بينك وبين نفسك:  إنه يبالغ·· يبالغ·· يبالغ، لكنك ستبتلع ريقك الجاف أصلاً من فرط دهشتك حين يضع أمامك مئات الصور الأبيض والأسود وفيها يبدو جالساً وواقفاً من قلبه بجوار ومع وبين كل الذين حكى عنهم·

أحياناً أشعر بأنه تاريخ يمشي على قدمين·

أحياناً أشعر بأنه ذاكرة بحجم مدينة مملوءة بملايين الوجوه والأسماء وعناوين الكتب وصفحاتها·

أحياناً أشعر بالشفقة عليه مما يحمله، كل شخص تعرف عليه يوماً واقتسم معه الوقت والحزن والفرح ترك لديه تفاصيله ومات أو غاب بعيداً، فإذا الرجل شقي بما يحمل من ذكريات·

في عينيه فرح بالحياة كطفل وهو الذي تجاوز الستين بسنوات·

في قلبه شغف بالحب، بالمرأة، بالسفر، بالجديد والمغاير·

وطنه حيث يحب الناس·· ويحبونه·

لا يضيق صدره حين يرن هاتفه عشر مرات متتالية في نصف ساعة، فيرد، ويرد، ويرد، يهدئ الثائر، ويعاتب المخطئ، ويداعب الذي يفاجئه بنكتة لم يسمعها، ولا ينام إذا عرف أن شخصاً ما قابله صدفة قد وقع أسير المرض أو الحاجة، يبحث في ذاكرته عن أهل الخير وهو أولهم، فيضمد جراح من اختبرتهم الحياة كاتماً بضحكته المجلجلة جراحه الكثيرة، مبتسماً حين يخاطبه صديقه بلقب أبو الأيتام·

ومن يومها

من يوم أن ذهبت إليه على جناحي كلمة رئيس التحرير:  اذهب إليه وافتح خزائن ذاكرته·· ·

من يوم أن تورطت ورطة جميلة في محبة إنسانيته

من يومها لا تفارقني حكاياته·

أمشي بها، وأستعيدها كصورة لتحولات الحياة، لقدرة رجل واحد على أن يسير هكذا خفيفاً·· مرحاً·· وطفلاً، فيما تنام على كتفيه أزمنة بأهلها وأماكنها، بأفراحها·· وأحزانها·

هكذا·· أن تكون رجلاً في زمن، أسهل كثيراً من أن تكون زمناً في رجل·

هكذا·· يذهب ويجيء أبو الأيتام ··

وخلفه

ومعه

وأمامه

تتقاطر الحكايات والأيام·

 

 


عم فايز

 

كان طيباً وهادئاً، لكنني لم أحبه إلا حين كبُرت، وذهبت سذاجة الطفولة، لم يضر أحداً، ولم يتفوه بكلمة جارحة، وجهه البيضاوي وقامته المشدودة وعمامته الملتفة حول رأسه، دلائل لا تخطئها العين على كونه من قرية بعيدة، يغادرها صباحاً على حمارته العرجاء، قاطعاً مسافات طويلة، منادياً أمام البيوت على أصحابها، منادياً بأسماء الأبناء البكر دون أن تلتبس عليه الأماكن والوجوه·

عم فايز

هذا اسمه الذي لم نعرف غيره، اسمه الذي كان يقض مضاجعنا ويخطف أحلامنا حين كانت طفولتنا معجونة بالشقاوة والعناد والهروب بعيداً عن  المقص  الذي ينزع عن رؤوسنا الشعر المنتفخ بالزيت والغبار·

كنا مسكونين بصورة عبد الحليم وشعره الطويل وتسريحته، وغارقين في تقليد نجوم الكرة ممن طالت شعورهم حتى أكتافهم، ولم يكن يحرمنا من هذا الهوس سوى تأنيب الأب والجدِّ·· ومقص فايز الذي يمرح في رؤوسنا فتلتصق الشعرات المتساقطة بدموعنا دون أن نحرك ساكناً خوفاً من العصا والحرمان من المصروف·

 فايز كان العفريت الذي يحرث خصلات الشعر ويتركها في زاوية من المكان ويمضي، كان الرجل الوحيد الذي تنحني أمامه رأس كبيرنا، فنضحك في سرّنا ونتغامز حين نرى صلعة العجوز، كان الوحيد الذي يحق له أن يلمس شارب الجَدِّ المهيب دون أن يموت خوفاً، وكنا صغاراً ساذجين نكرهه ونتمنى ألا يأتي أبداً، نتمنى أن تتعثر به حمارته العرجاء فيقع على رأسه ويموت

كان فايز طيباً لا يستحق دعواتنا الشريرة عليه، ولم تغفر له طيبته والحلوى التي يملأ بها جيبه ليروضنا، لم نغفر له يوماً سرقة أحلامنا بشعر طويل وتسريحة تشبه أولئك الذين كنا نعلق صورهم على الجدران الطينية·

دائماً كان يجيء بعد الظهر بقليل

دائماً كان يصل البيت حين يدق جرس المدرسة فنغادرها فرحين، لكن قلوبنا تنقبض لحظة نرى الحمارة العرجاء مربوطة في شجرة الصفصاف أمام البيت، نعرف أنه في مجلس الرجال، وأن مقصه يدور الآن في رأس وشارب الأب والجدّ، وأننا واقعون في الفخ لا محالة، نقدم رجلاً ونؤخر أخرى، نختبئ في الحقل المجاور، نمشي على أطراف أصابعنا، لكن بعد قليل يرتفع صوت الأب منادياً، كاشفاً حيلتنا الصغيرة، نطل برؤوسنا من بين أعواد الذرة والقمح، ونستسلم في حقد وضغينة، نبكي فينهرنا الجدّ بنظرة من عينين حادتين كالصقر، يداعبنا الحلاق فلا نطيق دعابته، ولا طبقه الصغير المغطى بالصدأ وببقايا الصابون الرخيص، تميل أعناقنا قليلاً فتجري ماكينة الحلاقة بلا هوادة، ومن بعدها المقص، ومن بعده الموس الحاد، وبين الحين والآخر تمتد أصابعنا مرتعشة لتتحسس ما بقي من شعر هناك في الأعلى، فنحس بالخيبة، ونرفع نهنهة البكاء، فيأتي التحذير من الخلف:  هاااا·· وبعدين، نصمت ونبتلع دموعنا خوفاً من العصا التي تتراقص في يد العجوز المهيب.

- خلاص·· نعيماً·

يقولها فايز وهو ينفض بقايا الشعر عن الرأس الذي بدا مثل كرة ملساء، نفلت من الجلوس أمامه ناقمين عليه، ونصب غضبنا على حمارته العرجاء، فنطلق سراحها وندفعها بعيداً حتى يمشي على قدميه طويلاً باحثاً عنها، خائفين نلوذ بالأم، فتضم أحزاننا ضاحكة، وفي الصباح حين نمضي على الطريق في اتجاه المدرسة نخفي رؤوسنا الحليقة تحت الطاقية متعللين بالبرد، حجة واهية تثير الضحك حين نرفعها على باب المدرسة فيسخر أولئك الصغار الذين أفلتوا بالأمس من مقص فايز·

كان طيباً وهادئاً حتى آخر يوم رأيته فيه، ذلك اليوم الذي ذهبت إليه بقدمي ملقياً عليه السلام، وسائلاً إياه عن حمارته العرجاء، فأخبرني بنبرة حزن عن موتها، وعن قلة من يقصدونه بعد أن عرف كثيرون دكاكين الحلاقين في المدن، ورمقني بنظرة وهو يتمتم على إيقاع المقص:

- راحت علينا يا باشمهندس.

 

  

  

ثمن الخطايا

ثمة محبة تفيض في قلوبنا عادة تجاه ماضينا حتى لو كان كريهاً، نحن نتلهف إلى ما كنا عليه في الوقت البعيد، إلى أرواحنا الضائعة، إلى روائح الأمكنة والناس، وعلى الرغم من تلك اللهفة إلى ما فات إلا أننا كثيراً ما نهرب، ونستغيث بالنسيان ونلوذ به، ونصفه بالنعمة، وهي نعمة القفز فوق زمن عشناه بالأمس ثم نريد اليوم أن نتنكر له، وأن نشطبه ونلغي تفاصيله دون رحمة ودون شفقة على جزء من حياتنا، النسيان هنا هو قطارنا الذي نستقله هاربين مما فعلناه وكنا سعداء به، لكن الماضي غالباً ما يطاردنا·· يطاردنا برائحة عطر قديم، بكلمة مشابهة ومخزنة في القلب، بملامح تأخذنا إلى وجه بعيد، بمكان، بصورة، بأغنية، بشرود ثقيل يشدنا إلى الخلف،نتذكر أول صداقة، أول حب، أول فشل، أول بكاء، أول قبلة، أول كل الأشياء والحالات، ربما ننتقي أحياناً ما نتذكره، وربما نترك أنفسنا طوعاً أمام تذكر الماضي بكل ما فيه من أخطاء وعثرات، وأحياناً كثيرة نحب أخطاءنا القديمة، وهكذا نظل بين حالتين: الحنين والنسيان، وبينهما ينقضي العمر، لأن كل لحظة من حياتنا هي لحظة سابقة، وحتى اللحظة الممتدة لساعة أو يوم، أقل أو أكثر، هي لحظة سابقة، يدخل زمنها في الماضي تدريجياً، دقيقة وراء دقيقة حتى تكتمل كماض تام، وإذا كنا في لحظة الحدث كارهين له، متحدثين بضيق عن معاناتنا تجاه ما نعيش وما نواجه إلا أن الماضي عادة ما يعطي الحدث الذي كنا نكرهه جمالاً خاصاً، فيه ما فيه من القسوة ومن الأسى ومن الذكريات المؤلمة، لكن - لأول مرة - تصبح له أيضاً حالة من الحنين، وقد لا نكون في حنينا هذا مربوطين إلى الحدث بقدر ما نكون مربوطين إلى أنفسنا في زمنه·

إننا هنا نصنع الماضي بكل جدية وإخلاص·

كل يوم نفعل الفعلة نفسها، نواصلها بولاء غريب، فتترحل أفراحنا وأحزاننا إلى الخلف، إلى علبة الذاكرة الضخمة، هذه العلبة التي تضم سنواتنا الفائتة، الأحبة الذين مضوا، والأهل البعيدين، والبراءة التي خسرناها، والدموع التي بكيناها مرارة وفقداً، ونموت في تذكر ماضينا بكل ما فيه، نموت خلف ما كنا فيه وعليه، لكننا لا نتوقف عن أداء دورنا في ضخ التفاصيل والأحداث إلى العلبة التي لا تمتلئ ولا تكتفي بما فيها، علبة الماضي، علبة الذاكرة